مقالات رأي

الفاشية و”الاغتراب” في سوريا / ماهر مسعود

إمشي الحيط الحيط.. ! كاريكاتير للفنان سمير خليلي

إمشي الحيط الحيط.. ! كاريكاتير للفنان سمير خليلي

لم يعش السوريون تحت سلطة نظام اقتصادي رأسمالي كلاسيكي، والذي يُعرِّفه الفلاسفة؛ من ماركس إلى فروم، بوصفه نظاماً منتجاً للتشيؤ واغتراب الانسان عن ذاته وعن عالمه، ويحوله إلى سلعة وإلى “شيء” فاقد لجوهره الإنساني.. بل عاشوا تحت سلطة نظام سياسي/اقتصادي يمكن تسميته بـ “رأسمالية السلطة” تمييزاً له عن “رأسمالية الدولة” الذي ساد الدول الشيوعية، صاحبة الأنظمة الاشتراكية الشمولية المعروفة والمعرَّفة بفاشيتها.

إذا كان من مظاهر الاقتصاد الرأسمالي، احتكار الثروة وتراكم المال بيد القلّة القليلة من الناس، ومن مؤدياتها تحول البشر إلى آلات في عجلة الانتاج، واغترابهم عن منتجاتهم، وانسياقهم نحو التسليع والاستهلاك الذي يحول أعمالهم، وحتى أفكارهم وعواطفهم إلى سلع في سوق العرض والطلب. فإن من مظاهر “رأسمالية السلطة” احتكار السياسة وتراكم القوة بيد العصبة السلطوية وحدها، بل تَحوُّل فائض القيمة السياسي إلى أجهزة أمنية متراكمة تبزُّ الجامعات في فروعها، وتبزُّ المدارس في تعليم الخوف والخنوع. ومن مؤدياتها تحول البشر إلى آلات في مصنع الاستبداد، وانسياقهم كالعبيد في مسيرات مليونية تعيد انتاج السلطة ذاتها التي تبتزهم وتستعبدهم.

إن الإفقار الاقتصادي للمجتمع السوري، الذي نتج عن تراكم رأس المال بيد العصبة السلطوية وأزلامها، كان متزامناً مع حالة افقار سياسي عام، نتج بدوره عن تراكم “الرأسمال السياسي” بيد السلطة ذاتها. ومثلما أدى احتكار الاقتصاد سلطوياً إلى حالة اغتراب عامة لدى السوريين تجاه مؤسسات الدولة العامة، وبقاء تلك المؤسسات مكاناً للعطالة والنهب والفساد وضعف الانتاج، كذلك أدى احتكار السياسة في سلطة الحزب الواحد، إلى حالة فقر سياسي مدقع في المجتمع السوري، برزت أهم تجلياته في اغتراب السوريين عن سياسة دولتهم، وعزوفهم عن العمل والفاعلية السياسية، وتحولهم إلى “أشياء” وإلى “أدوات سياسية” بيد السلطة، بعد أن كانوا “ذوات” سياسية فاعلة في عهد الاستقلال الأول.

أسست الفاشية الأسدية لأعلى مراحل الاغتراب في المجتمع السوري، فبقي السوريون غرباء عن بعضهم، يتقاسمون الخوف والذل مع الخبز، ويعيشون في منافيهم الخاصة وضمن المنفى الجماعي المُسمى “وطناً”، لا أحد منهم يشبه نفسه أو يشبه ما يراه أو يحلم به، رغم كونهم جميعاً متشابهين. لا أحد منهم يملك نفسه أو قراره أو رأيه الحر، لأنهم جميعاً مملوكين من سلطة تقرر عنهم، وترى عنهم، وتحاسب من يرى غير ما ترى بالسجن أو القبر.

لقد تكون لدى مجمل السوريين “وعيٌ شقيٌ” إن اعتمدنا المصطلح الهيغلي، وهو وعي مشطور ومنقسم ضد نفسه، جعل الانسان السوري يقول بما لا يفكر به، ويفكر بما لا يقوله، جعله شخصاً ثنائياً وفصامياً، فشخصيته في البيت غيرها في العمل، وما تظهره مغاير لما تبطنه، وأمام الآخرين غيرها أمام الذات. وذلك ولّد نظاماً أخلاقياً قوامه الكذب والتكاذب، ونظاماً اجتماعياً قوامه الدجل والمراعاة، ونظاماً اقتصادياً قوامه الفساد والرشوة، ونظاماً قضائياً قوامه الوساطة ونقص العدالة، ونظاماً تعليمياً قوامه التلقين والغش والتسلق وانعدام الكفاءة، ونظاماً أمنياً قوامه المخبرين والوشاة وانعدام الأمن، فهل هناك وصفة للخراب أكثر من ذلك؟.

لم يبدأ السوريون بالتعرف على بعضهم وعلى أنفسهم إلا مع الثورة السورية، ولم يبدؤوا في الاندماج الوطني والتحرر من مخاوفهم ومن اغترابهم إلا مع الثورة، إلا أن تراكم رأسمال القوة لدى السلطة كان أقوى من اجتماعهم السلمي، وتحللها من أي مسؤولية أخلاقية أو رادع سياسي، أطلق يدها في قتل الناس دون محاسبة. كما أن اندماج السلطة في نظام عالمي يقوم على سلطة الأقوياء، وتحالفها الوطيد مع أنظمة فاشية اقليمية ودولية لا يخيفها أكثر من الديمقراطية وحرية الشعوب، أديا لما نسميه مجازاً “بالعولمة ضد الثورة”، أي تحول الثورة من مواجهة النظام وحده إلى مواجهة العالم المتحالف ضدها.

لكن خذلان العالم وتركه السوريين وحيدين في مواجهة القتل بكل صنوفه، أديا لخوف السوريين من الحرية وهروبهم نحو منافٍ خارجية، أو نحو الاستبداد المزدوج الذي يمثله النظام من جهة ويمثله داعش وأشباهه في الجهة المقابلة، فمن بقي منهم في مناطق النظام أصبح مأسوراً في معركة النظام الوجودية، ومن بقي منهم في مناطق المعارضة أصبح مأسوراً عند حركات اسلامية حاربت الجيش الحر أكثر من محاربتها للنظام. ومثلما يلوم الكثيرون السوريين في مناطق النظام على صمتهم وسكوتهم واحتضانهم نظاماً قاتلاً، يلوم الكثيرون أيضاً، السوريين في مناطق السيطرة الإسلامية على صمتهم واحتضانهم لداعش وأشباهها، ويعدّونهم حاضنة للإرهاب. مع أن ما يحصل هو أن الناس لم يتسن لها أن تتنفس هواء الحرية جيداً لا هنا ولا هناك، ولذلك بات الجميع يقايضون حريتهم بأمنهم، فهل هناك ما هو أصعب وأقسى، وما هو أكثر اغتراباً ولا إنسانية، من مقايضة الحرية بالأمن؟ وهل من سبب خلف الأشكال المروعة للإجرام التي نشهدها سوى الموت الروحي للسوريين واحساسهم بانتفاء المعنى بعد كل التضحيات التي قدموها على مذبح الحرية؟، وهل يحق لأحد أن يلوم السوريين اليوم على تلك النزعة التدميرية الكارهة للحياة والمضادة لها التي نمت بينهم؟!.

Click to comment

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

To Top