مجلة طلعنا عالحرية

العنصرية الأنثى

بشرى البشوات

تعيد حادثة رفض “ماري لوبين” مرشحة “الجبهة الوطنيّة” لانتخابات الرئاسة الفرنسية ارتداء الحجاب، بمناسبة زيارتها التي كانت مُقرّرة لـ”دار الإفتاء” اللبنانيّة، استفزاز خيال الأسئلة. تلك الأسئلة المتأرجحة بين المُنجَز والمشروع في حقل التفكير، والتي لم تحظ بسرير راحتها الأبديّة داخل أنظمة التفكير. وربما كان لعدم الحسم ذاك الكثير ممّا سيدين له المعنى العائم فوق نهر بلا ضفاف.

لواقعة “ماري لوبين” أكثر من بعد ومستوى؛ فهي من طبيعة معقدة مثل جميع الوقائع على الرغم من الظاهر البسيط. هي معقدة لأنها تربك أذهاننا وتجعل عقلنا المستريح يضرب أخماس الحريّة بأسداس القانون. فهل هي مسألة حول شكل من أشكال الحريّة: الحريّة الشخصيّة لـ”ماري لوبين” في ارتداء أو عدم ارتداء الحجاب في “دار الإفتاء” كما يرغب المفتي؟ أم هي قضيّة القانون: قانون مؤسّسة “الإفتاء” بعدم جواز دخول المرأة بلا غطاء على الرأس وهي مؤسسة شرع إسلامي أوﻻً وأخيراً؟!

 فيما وراء ضجيج الإعلام، ينحو العقل في لعبة التجريد منحى المفهوم، بقصد الإمساك بإشكاليّاته، حيث أنّ المفهوم واقع مكثف، يشتاق العقل أن يفهم ذاته إذ يشتبك مع وقائعه، لكنه يفشل أحياناً وتذهب ريحه بدّداً.

أحياناً تعيد الفيزياء ترتيب هندام الطبيعة، حين تعود بالماء إلى ما قبل الصفر المئوي، هكذا يحدث أن يصير الماء ثلجاً أو جليداً، حينها تبرد الحمى في شرايين الطبيعة. كذلك تريد للعقل أن يعود من النشوة إلى الدهشة ليعيد ترتيب هندام المفاهيم. ونحن نطرح السؤال: هل من علاقة لما سبق بواقعة ماري والمفتي؟ أدعي ذلك. كيف؟

لأنّ هذه الواقعة تعرّض أذهاننا لحادثة اصطدام جديدة بذاتها، أي بأسئلة العقل نفسه، أعني سؤال الحريّة وإجابته المُتعيّنة بالقانون، وما الذي ينبغي أن نفهمه من كل ذلك ومع من يجب أن نقف وعلى أي ضفة؟

ما سبق هو أسئلة مبادئ وكلّيات، بيد أننا لن ننجو من دوامة الجزئيّات والتفاصيل، فهذه الواقعة  ستفرض علينا الخروج عن صيغة الطرح السابقة، كيف؟

لو كانت “ماري لوبين” شخصاً عادياً يتعرّض لمساس بحريته الشخصيّة لتعيّن علينا الدفاع عنها ولو بأضعف الإيمان، لكنها مرشحة اليمين المتطرّف للرئاسة وهذا ﻻ يقلل من حقها في الحريّة الشخصيّة طبعاً، لكنّ المسألة ليست هنا؛ فـ”لوبين” تنظر إلى نفسها مثلما ينظر السالك العارف الذي يقطع طريق المقامات والأحوال حتى نهايته، وهو إذ يعتقد بأنّه قد أنزل منزلة الواحد بالتوحّد في الذات الإلهية فقد تجوهر. أي أنّه قد أصبح جوهراً فوق الشريعة (القانون) وسقط عنه التكليف. هنا المشكلة: “لوبين” ترى إلى نفسها أنّها فوق قوانين “المفتي” وربما فوق القانون بال التعرّيف، هي جوهر وهنا جذر العنصرية التي ليست غير نزعة التفوّق إزاء الآخر.. أيّ آخر.

ﻻ يمكن للحريّة أن تقف بجوار العنصريّة، هذه حقيقة ﻻ يرقى إليها الشك.

من المؤسف أنّ “ماري لوبين” نسخة نسائية من الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، وبهذا فأفعالها تصدر عن طبيعة عنصريّة متطرّفة ﻻ تقيم وزناً ﻻ للحريّة وﻻ للحقوق، وﻻ لفكرة العدل والمساواة، ترى فقط تفوقها العنصري بإزاء الآخر.

 من المؤسف حقاً أنّ “لوبين” الأنيقة بشانيلها الأخاذ، ليست غير وجه أنيق، لذلك الأصولي المتطرّف مع زيادة في المصيبة، أنّها أنثى.

لم يذهب “المفتي” إلى مكتب “لوبين” الباريسي الفخم ليطلب إليها ارتداء الحجاب، ولو فعل لكنا سنقف معها رغم كلّ شيء، لكن “ماري” هي من أتت إليه لتبعث برسالة أنّها باقية على عهدها العنصري. وليست دار الإفتاء فضاءً عاماً يستدعي نزع الرموز الدينية، فلو كانت كذلك لقلنا إنّ “ماري لوبين” تدافع عمّا هو عمومي يساوي بين البشر، لكنها مؤسسة دينية إسلامية لها قوانينها، ومن هذا المنبر بالتحديد أرادت “لوبين” توجيه رسالة إلى معشر الناخبين، رسالة ليست أكثر من استثمار في الوعي العنصري، رسالة بيع وشراء.

حين ذهب “روحاني” في زيارة رسميّة إلى العاصمة الإيطاليّة “روما” في العام الماضي، قام الطليان بتغطية التماثيل العارية في “معهد كابيتوليني”، حتى تمثال “فينوس” أيقونة الحب والجمال. كان ثمن التغطية هو استثمار في سوق إيران بـ 17 مليار يورو. وهذا حال “ماري لوبين” التي ستستثمر في 17 مليون ناخب ربما.

وهذا حال عالم ينطق عن الهوى، ﻻ مكان للفضيلة هنا، كل شيء على أهبة الفزع.

 

Exit mobile version