صوت من داريا
الجهل والتعلم.. تعبيران متضادان يرسم كلّ منهما صورة للواقع تقف موقف المقابلة والتضاد مع الصورة التي يرسمها التعبير الآخر.. العلم.. الأساسُ الذي تتكأ عليه الدول في بناء حضارتها، و نهضتها، والارتقاء بها في ركب الأمم والحضارات المتقدمة. والجهل.. هو الأساسُ الذي لم يجد كاتبُ التاريخ فيروساً أشدّ فتكاً وأكثر ارتباطاً مع انهيار الدول والحضارات وتصدّع عرى المجتمعات منه.
يذكر التاريخ أنّه لم تعن بالعلم دولة إلا وارتقت وزاحمت غيرها على رأس هرم الحضارة والتطور، ولم تهمله دولة إلا وغالت في انحدارها حتى انتهت في قاع الذبول والضعف وخسارة السيادة وعقد الولاءات.. حيث تجتمع جميع الأمم الشقيّة. العلم، بهذا الاسم وصف الله تعالى ذاته في قرآنه، وللدعوة له نزلت الكلمة الأولى إلى الأرض، واتخذت من الجهل العدو الأول لها. فكانت أقرأ.. وكانت الأمة.. أمة أقرأ.
على وقع انتشار العلم بسائر مجالاته وانتشار الوعي في المجتمعات تتبدد آمال الدول الكائدة بالانتصار والغلبة والسيطرة والاستبداد، فلا تقوم قائمة لحكم ظالم أو أمدٌ طويل لاحتلال في مجتمع انتشر فيه العلم وجعا نشر الوعي والفهم من أولويات مساعيه وعمله، ومن الجهل والتخلف رؤوس أعدائه ومحاربيه. ويذكر التاريخ أنه ما تمسكت واهتمت بالعلم دولة إلا وغادرها الضعف إلى غير رجعة، وما تخلت عنه إلا ونخر فيها الضعف والوهن والتخبط إلى أعمق مدى وحدّ.
لقد سطّرت دولة اليابان مثالاَ حياً يحتذى به في تسلق سلم المجد والقدوات، باستغلالها للعلم والتطور التقني في نهضتها، وبناء اقتصادها المدمر، ومؤسساتها الهزيلة وبناها التحتية التي باتت في الحضيض بعد الحرب العالمية الثانية، لينتهي بها الحال بعدها إلى التربّع على مرتبة الاقتصاد الثالث على مستوى العالم كلّه بعد الولايات المتحدة الأمريكية والصين، بعد أن كانت في مؤخرة الأمم تداري ضعفها وديونها. لقد كان عام 1945 عاماً أسوداً في تاريخ اليابان والعالم، خسرت فيه اليابان أكثر من مائتي ألف نسمة من أبنائها، بالإضافة إلى عشرات الآلاف من المتضررين بالإشعاعات النووية جراء القنابل النووية التي ألقت بها الولايات المتحدة الأمريكية في سماء اليابان. لم تبق اليابان ممددة طويلاً، ولم تدخر بعد جهداً فنضهت لفورها وشهدت حركة داخلية متسارعة تجلت فيها مظاهر الاعتناء بالعلم، وتسخير غالب الموارد إلى طلبه ونشره، وتطوير البحث العلمي، والاهتمام بالباحثين، وتوفير الأجواء المناسبة لأعمالهم ومشاريعهم.. فعقدت اجتماعات وبدأت تكافح على مدى عقود كثيرة، تسلّم فيها الآتي من الراحل، مبقياً على المنهاج ذاته في لحظ العلم الأولوية الأولى في الدولة، إلى أن انتهى بها الحال في السنين الأخيرة لتكون الاقتصاد الثالث على مستوى العالم، بالإضافة إلى صياغتها لعلامات ومواصفات قياسية لمنتجاتها، باتت مقياساً تقاس به جودة منتجات دول أخرى. لقد رسمت اليابان هدفاً وحققت بعضه، ولا تزال تعمل ولا توفر جهداً في شق طريقها إلى سدّة الأمم بالعلم والمعرفة والفهم، بعيداً عن بلوغها الجور والظلم والتسلّط. اليابان مريض أفاق من غيبوبته وعاد صحيحاً كما كان، والواجب علينا في هذه اللحظات الأليمة التي تعصف بالشرق أن نستقريء تجارب الآخرين، ونفاد منها. اليابانُ تجربةً، لنحاول جنباً إلى جنب تكرارها في مجتمعاتنا، فالدول تدول، والأيام دول، ولا يزال العلم يشق طريقه ليثبت ذاته على أنه المسار والمسلك الوحيد الذي يضمن حقوق الأمم، وسيادتها وعزّتها بين الأمم في زمن بات فيه الجهل ألدّ الأعداء، وبات حاضنه أضعف المجتمعات، وأكثرهم عقد ولاءات لغيره.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج