رغم أنّ الأغلبية الكردية تتقن اللغة العربية، فثمّة شريحة واسعة من العرب القاطنين في المناطق الكردية، يتحدثون اللغة الكردية بطلاقة بفعل التجاور والتزاوج والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية.
ولعل حال التوجس والتباعد التي سادت بين الطرفين، إن كانت سياسياً أو ثقافياً لعقود بُعيْد استقلال سوريا، هي نتاج فرض نموذج الدولة المركزية القامعة للتعدد والرافضة الاقرار بالوجود التاريخي الجغرافي للكرد، وخاصةً بعد مجيء الأنظمة العسكرية القوموية إلى الحكم، وبالتالي قامت هذه الأنظمة باغتصاب السلطة ومقدرات البلاد،
وأكدت الرؤى العنصرية حيال الكرد، وسرعان ما ألبست لبوساً ثقافوياً، وأخذت تطبق سياسات امحاء وتشويه ثقافيٌين بحق الشعب الكردي عبر حظر لغته وثقافته وتسفيههما. فالشرخ الحاصل على مختلف الصعد في العلاقة العربية – الكردية بفعل الممارسات البعثية القومية حيال الشعب الكردي، تعريباً، وتبعيثاً، وصهراً قومياً آن الآوان لترميمه وإعادة بناء التواصل والتلاقح الثقافيين كمدخل لتكريس أرضية التعايش والتسامح والتكامل أكثر فأكثر بين العرب والكرد.
وهنا، وبعد مضي اكثر من اربع سنوات ونصف على الحراك في سورية فأن المستوى الثقافي في العلاقة العربية – الكردية بقي مهملاً وضامراً رغم ضرورته وأهميته لتمتين البنية التحتية للتشارك العربي – الكردي في سوريا المستقبل. هذا البلد الذي لم يشهد يوماً اقتتالاً عربياً كردياً بالرغم من ألاعيب الساسة والراديكاليين ومحاولاتهم البائسة.
إن تفعيل المنجزات والمشتركات الثقافية بين الشعبين يبقى الاستثمار الأمضى في تكريس تفاهمهما وتفهمها للآخر، ولا سيّما أنّ الإيغال البعثي والقوموي العروبي والتطرف والإرهاب الذي يحاول أبلسة الكرد وتصويرهم عدواً وخطراً على العرب انعكس، للأسف، حتى على الوسط الثقافي العربي في سوريا وخارجها، كما انعكس بدوره، وإلى حدّ كبير، على البنى القاعدية الشعبية التي تأثرت بطبيعة الحال بالخطاب الثقافي والسياسي السائد المعادي لكل ما هو كردي (أنظر الموقف الثقافي وحتى الشعبي العربي العام خارج سوريا من مجزرة كوباني _عين عرب مثلاً)
وبناءً عليه فإنّ الشروع في تكريس مناخات انفتاح وتبادل ثقافية صحية بين العرب والكرد في سوريا خاصة، وتالياً في المحيط العربي ككلّ بات مهمة عاجلة لا تحتمل التسويف. لذا عملت وشرعت بعض منظمات العمل المدني التي عملت في بناء السلام والتشاركية والعيش المشترك في محاولة ترميم هذه العلاقات، لكنها مع الأسف لم تلق صدى إيجابياً تفاعلياً كبيراً، وذلك للتراكمات الكبيرة من الظلم والاضطهاد، ناهيك عن طفو على السطح للتنظيمات المتطرفة الارهابية والخطاب القومي العدمي. وعملت ايضا القوى العسكرية على تعميق التصدعات في المجتمع السوري خلال الأربع سنوات الماضية. لذا أجبرت الناس على أدلجة الهوية فصاروا عدوانيين بالفطرة.
إن إيجاد رؤية استراتيجية لتوطيد التعايش والتكامل بين العرب والكرد تدخل من بوابة الثقافة نحو بناء دولة تشاركية ــــ دولة المواطنة والقانون، فبعد عقود من الاضطهاد والصهر القومي المتبعة بحق الكرد تبدو المهمة ثقيلة وصعبة على المثقفين السوريين في استقطاب الثقافات الوطنية المتعددة وخصوصاً الكردية، وإعادتها إلى دائرة التفاعل مع الثقافة الوطنية السورية العامة لتؤدي دورها للنهوض بسوريا.
ومن المعروف أنّ الثقافة الكردية هي التي سهّلت التواصل والالتقاء بين حاملي الثقافتين الكردية والعربية، وهنا تظهر أهمية دور المؤسسات والنخب الثقافية والإعلامية العربية في تسليط الضوء على هذه الحقيقة وأداء دورها المفترض لكسر الحاجز النفسي، الذي أوجده الإستبداد بممارساته، وابتلع طعمه المجتمع والناس، هذه الممارسات خلقت في العقلية الجمعية الكردية توجساً، كي لا نقول قطيعة، من كل ما هو عربي وخلقت في المقابل في العقلية الجمعية العربية توجساً واضطراباً، ما أبعد الثقافة الكردية عن نظيرتها العربية، وقلّص دورها وحضورها التفاعلي.
الحقيقة أن الثقافة الكردية قائمة على التسامح وعدم التعصب والبعد عن روحية الانتقام والنزعات الثأرية، مما مثّل علامات بارزة في العقل الثقافي الكردي، فضلاً عن تمثل قيم العيش المشترك وقبول الآخر وتفهمه، أيضاً الثقافة العربية في سورية هي ليست عنصرية شوفينية ولا يوجد بها غلو، ولكن كون الثقافة الكردية نابعة من الشعب وللشعب، ولأنّها حرّة الانطلاق وبدون قيود، ولكونها ثقافة معبّرة عن شعب مضطهد وصاحب قضية تحرّرية عادلة جعل المختصين يقومون بتصنيفها وتسميتها كثقافة شعبية منفتحة لا متقوقعة. هي ثقافة منفتحة على الثقافات الأخرى وفي مقدمها الثقافة العربية. وفي مجال الشعر، مثلاً، تتضح الصورة أكثر لجهة التقارب والتناغم بين الثقافتين، فالعديد من الشعراء والمبدعين الكرد معروفون لدى القارئ العربي بفعل تقارب المواضيع والعوالم الشعرية، الناجم عن عوامل التجاور والتمازج الاجتماعي والثقافي والروحي.
وإذا ما كانت السياسة تفرق، فإن الثقافة يمكنها أن توحد وأن ترمم ما تفسده الأولى، وخاصة إذا ما أديرت دفتها بتبصر ورحابة أفق. فهي بنظر غالبية المثقفين العرب ما زالت تمثل الرهان الأخير للحلم في الوحدة الوطنية الطوعية المعبّرة عن التعدد والتنوع في مجتمعاتنا، قومياً ودينياً ومذهبياً وثقافياً، بعيداً عن الشعارات والمشاريع السياسية المؤدلجة الزائفة. وخاصةً أنّ الكرد يتميزون بقدر عال من الحصانة الذاتية والمحافظة على الخصائص والثوابت القومية واللغوية والثقافية بعد قرون طويلة من التعايش والتمازج الاجتماعي والديني مع العرب.
أن ما يلزمنا اليوم نحن العرب والكرد السوريين، هو العمل معاً لإعادة انتاج ذواتنا من جديد والوقوف عند هذه الذوات، وبالتالي لأن نحمل معاُ مشروعاً ثقافياً هو الحامل لما هو فكري قادم، نلتقي معاً لقاء الثقافات الوطنية.. نفتح الباب لكل الثقافات السورية المتنوعة والمتمازجة للتعارف والحوار، نسميه لقاء وحوار الثقافات الوطنية.
لنطلق نحن السوريين هذا المشروع ولنبدأ به من الجزيرة وليحمله العرب والكرد ويكون نموذجاً يحتذى به لسوريا وللمنطقة.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج