كانت حياته درساً مستمراً، وكان له درسان منتظمان: درس أسبوعي يوم الإثنين، استمر لأكثر من ربع قرن، وكنت ضيفه الدائم، ويشاركنا أحياناً بعض الحضور، وأضيف إليه في السنوات الأخيرة درسٌ بعد صلاة الجمعة، كنت أحضره مع أسرتي. وكان له درس في الخميس الأول من كل شهر في منزله في دمشق، لم أحضره بشكل جدي إلا في السنوات الأخيرة.
يتميز الحضور في دروس الأستاذ، بأنه حضور مزمن، وأنا حالة ومثال على هذا الحضور، ويتميز هذا الحضور المزمن فيما يبدو لي بخاصيتين اثنتين:
1- عدم الإحساس بالملل أو التجاوز أو التكرار الذي يشكو منه كثيرون ممن حضروا الدروس بشكل متباعد، فلم يدخلوا عالمه الفكري، ولم يلحظوا نمو الأفكار، ولم يدركوا قيمتها التأسيسية المنقذة.
2- تفاوت إدراك الحاضرين لما يقال -رغم الإزمان الذي تحدثنا عنه- وهذا يتضح كلما حدث حوار أثناء الجلسات، وقد كان أمراً ميسوراً؛ فميزة الأستاذ أنه يحب أن يسمع من الآخرين، وكان يعطي الفرصة لكل راغب في الحديث.
وهاتان الخاصتان -فيما أتصور- صدى لطبيعة الفكر الذي يُعرض في جلسات الأستاذ، والذي يتميز بدوره أيضاً بميزتين هامتين فيما نرى هما:
الوجاهة والصدقية والمباشرة والبداهة.
صعوبة المحاكاة والاستنساخ وإعادة الإنتاج، ويبدو ذلك واضحاً كلما حاولنا إعادة الإنتاج قولاً أو كتابةً.
وتنبع الخاصة الأولى مما يحتويه الفكر المطروح من مباشرة، ونوعية ما يتصدى له من قضايا، وما يعتمده من أسلوب، وما يلجأ إليه من آليات؛ في الإشارة إلى الوقائع والأحداث التي لا يلتفت أحد لدلالتها، ولا يهتم أحد بمعانيها، فذلك أسلوب في البحث لم يعتده العقل العربي، وبشكل أكثر دقة، لم يعتده عقل العصر الوسيط المسيطر، والذي هو بالمجمل عقل نصّيّ، لم يتعلم لغة العلم التي هي لغة (الخلق) (أي لغة من خَلَق)، والمرشحة لأن تصبح لغة العالم، أو اللغة الكونية.
فيما تنبع الخاصية الثانية من الأفق الذي يتم من خلاله الطرح الفكري؛ فما يطرح من فكر، ليس زيادة معرفية كمية، تتم إضافتها في سياق نظام معرفي سائد، وإنما هي زيادة نوعية من نظام ثقافي مختلف، إنها منبهات ليس لها مستقبلات (إن جاز التعبير) في الثقافة السائدة، إنها لغة جديدة ، تستعمل ألفاظا مستهلكة، مسكونة ومحملة بمعان قديمة فات أوانها، إن ما يحدث هو شدّ وتوسيع لمعاني الكلمات القديمة، تبديل وتجديد وإعادة تأويل، إماتة لبعض المعاني، وإحياء لمعان أخرى ميتة، إنها محاولة لإعادة قراءة الكون والكتاب سبيلي الوحي، من خلال جدل النص والواقع، ومعانقة آيات الكون لآيات الكتاب، في عالم تم فيه إلغاء دلالات آيات الكون، لصالح قراءة وحيدة ميتة متحجرة لآيات الكتاب، إنها محاولة لإنقاذ آيات الكتاب من أسر الزمان والمكان، وشرط التاريخ، لإعادتها حرة طليقة خالدة، مفتوحة على الآفاق والأنفس عبر الزمان والمكان، كما أراد لها الله سبحانه وتعالى، إنها محاولة لخلق نظام معرفي جديد يقوم على إعادة تأويل الواقع والقرآن والإنسان، حيث يتم:
1- استنطاق الواقع الحي المتحرك المشارك الأول في صناعة المعنى وإنتاجه.
2- فتح القرآن على الواقع الحي، ليستمد حياة وحرارة من حيوية الواقع وحركته، فيصبح شريكاً في صناعة المعنى، موجهاً له، وليس “مصدراً وحيداً” له، لأنه لا يمكن أن يكون كذلك!
3- إحياء دور الإنسان وواجبه، باعتباره شريكاً في راهنية المعنى وحركيته، وباعتباره وسيطاً بين النص والكتاب، وكيلاً على جدلهما، شريكاً في خلق الحيوية والحياة فيهما، وكأنما هما يستمدان من حيويته الحياة، ومن حركته اكتمال المعنى، ومن اجتهاده استنارة الواقع وحياة النص.
في الواقع إننا نتحدث عن محاولة خلق “بارادايم” جديد بحسب توماس كون، يقوم هذا البارادايم على قلب جذري لعالم المعنى باعتبار حركيته، وتعددية مصادره، وزيادته الدائمة، وحركته المستمرة باتجاه الاكتمال والوضوح، ويكون لهذا الجهد قيمته التأسيسية، ومعناه الجذري، إذا أعدنا إلى الأذهان حقيقة أننا من الناحية العقلية نتاج ثقافة نصية، مرجعها الأول والأخير والوحيد هو النص.
وعندما نطرح إعادة إحياء قيمة الوقائع، وإعادة تمفصلها مع النص، بحيث يكون الواقع هو العامل الأول في صناعة المعنى، من خلال علاقة الجدل الدائم القائم بين النص والواقع، فنحن لم نصل لهذا المكان اعتباطاً أو خبطاً، بل اتكاء على النص المؤسس في الثقافة العربية، إن النص المركزي أو الـتأسيسي في هذه الثقافة، يحدد هذا الاتجاه لعلاقة النص بالواقع، ولعلاقتهما بالمعنى يقول تعالى: “سنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ” [فصّلت: 53].
ففي هذا النص تتجلى بوضوح أولوية الواقع في صناعة المعنى وتحديده؛ فحركة الفكر تنطلق من الواقع حيث الوقائع والظواهر في الأنفس والآفاق، وما ينظمها من سنن وقوانين هي الضابط لحركة الألفاظ، والمحدد لاتجاهات المعاني، وإذا لم نثبت حجر الأساس هذا، نصبح ضحايا لعبة الكلمات. وكثيرا ما يستشهد الأستاذ بنص للإمام الغزالي يقول فيه: “ ن أتبع الألفاظ المعاني كان كمن استدبر المغرب وهو يطلبه..”، وتتحول اللغة من وسيلة تخدم تبادل المعارف والمعاني، إلى دوامة لتضييع المعاني وتمييع الحقائق، وتتحول الوسيلة إلى غاية على حساب المعنى والحقيقة كما حدث في العالم الإسلامي عبر تاريخه؛ فقد تم إنشاء علوم سميت علوم الآلة، للمساعدة في الوصول للكتاب، لكن هذه العلوم أصبحت حوائل، تحول بين الناس وبين كتاب الله، ومحددات لحركة العقل مع الكتاب، فصارت قيداً، وتحولت الوسائل إلى غايات، وضاعت الغايات الأساسية، وتاهت العقول والكفاءات في لعبة اللغة ومتاهة الكلمات، وانقطعت صلة النص بالواقع، فانطفأت فيه المعاني، فوقع النص في أسر الكلمات، ولم يعد يتصل بالحياة، وحيث أن الكلمات تميل للخلود في مجتمع فقد صلته بالواقع المعاش، اتخذت المعاني أشكالاً نهائية، ومن كثرة تكرارها اكتسبت نوعاً من القدسية والنهائية، واتخذت النصوص المقدسة التي أنزلها الله معان (مقدسة) أنتجها الآباء، فأصيب النص المؤسس بالعقم (الثانوي إن صح التعبير)، وتحول من أداة للتحرير إلى عائق أمام التقدم.
فمن الناحية النظرية نجد أن النصّ التأسيسي يأخذ بيدنا باتجاه علاقة صحيحة أو منتجة أو حيوية مع الواقع باعتبار حيوية الوقائع وتجددها، ولكن المشكلة التي تعوق حيوية هذه الجدلية وتحد من انفتاحها، أن النص المركزي واقع في أسر الآباء، في حركيته وآفاقه ومعانيه، وهذا من الناحية الدينية نوع من الوثنية بحسب ما نفهم من النص ذاته: “وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ” [لقمان:21]، وهو من الناحية الإنسانية إلغاء لمعنى الإنسان، إذ أن هذا المعنى لا يتأكد إلا باعتبار الفعالية العقلية القائمة على فتح السمع والبصر “أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا” [الفرقان:44].
لما عرفت الأستاذ في ثمانينات القرن الماضي كنت أرى آية سورة فُصِّلت “سنريهم آياتنا في الآفاق..” نصّاً يتيماً، وبعد أن تعرفت على القرآن بصحبته تبدّى لي القرآن دعوة مستمرة للنظر في الآيات: “قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ” [يونس:101]، وإذا لم تكف البيّنات فالدعوة قائمة للانتظار للآيات: “قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ” [الأعراف: 71].
هذا هم واحد من اهتمامات متعددة كرس جودت سعيد لها جهده ووقته وكل ما يملك من طاقة خدمةً لإيمانه ولأمثاله من البشر.
العالم الفكري لجودت سعيد.. نقطة ضوء
By
Posted on