كلما كان عدد القوى المؤثرة في الواقع أكبر، كلما كانت الامكانيات التي يمكن أن يؤول إليها ذلك الواقع أوسع وأعقد، ولاسيما عندما لا تكون الغلبة أو السيطرة المطلقة لقوة واحدة بعينها بين تلك القوى.
وفي سوريا هناك دائرة كبرى من القوى الإقليمية والدولية المؤثرة والمتدخلة واقعياً، وهي قوى ذات مصالح متباينة ومتعارضة ومتناقضة معظم الأحيان. وفي مقابل تلك القوى الخارجية المؤثرة، هناك أيضاً دائرة أخرى من القوى المحلية، التي لا تقل صراعاتها وتناقضاتها وتأثيراتها في الواقع والمستقبل السوري عن تلك الخارجية. وليس كل من النظام السوري أو داعش أو النصرة، أو حتى فصائل الجيش الحر، سوى التمثيلات الظاهرية الأبرز عن تلك القوى المحلية، التي لا تكتمل دائرتها إلا بإضافة القوة المدنية الكامنة للشعب السوري، وهي قوة لا يعني عدم بروزها إلى السطح، على طريقة القوى الأخرى، أنها غير موجودة أو مؤثرة في سير الأحداث.
لكي نفكر في المآلات القادمة للدولة السورية، لابد أولاً أن نستبعد غير الممكن، ولذلك نجد أن ما هو غير ممكن، ينحصر في أمرين متناقضين يمثلهما مجازاً الغول والعنقاء: يمثل الغول الخيار المستبعد الأول، وهو عودة الدولة الأمنية الشمولية التي صنعها الأسد الأول وفضَّل الثاني إحراقها على أن يتخلى عن شموليتها. وتمثل العنقاء الخيار الثاني، وهو الدولة المركزية الدستورية القائمة على الديمقراطية والمواطنة، تلك الدولة التي خرج الشعب السوري بتظاهراته السلمية حالماً بتحقيقها، وعبرت عنها شعارات الثورة السورية بأهدافها الرئيسة في الحرية والكرامة والدولة المدنية الديمقراطية.
يعبر هذين الخيارين عمّا هو مستبعد في المدى المنظور، فحتى لو كانت إرادة النظام والقوى المتحالفة معه تتجه إلى استعادة دولة الاستبداد العلماني الشمولي، أو كانت إرادة داعش والنصرة والقوى الداعمة لها أو المستفيدة منها تتجه نحو البديل الإسلامي الشمولي، فإن أفضل ما يمكن لكل منها تحقيقه هو حرب أهلية بينية مستدامة، ممزوجة بحرب أخرى لكل من الاستبدادين نحو “شعبهما”، دون أن ننسى أن الشعب السوري بالمجمل لم يعد يملك ما يخسره بشكل حقيقي؛ وبعد كل الأثمان التي دفعها، سوى القيود.
لكن بالمقابل، فإن حلم الثورة السورية القائم على الشعب السوري الواحد، والدولة المركزية الديمقراطية لم يعد قابلاً للتحقيق في المدى المتوسط على الأقل، في ظل الشروخ الهائلة في المجتمع السوري التي تركتها الدماء المسالة، وفي ظل الفرز الطائفي والاثني الذي عمقته الحرب، وفي ظل الإرهاب العلماني الذي صنع إرهاباً إسلامياً يساويه في الدرجة ويعاكسه في الاتجاه، وفي ظل الذاكرة التي امتلأت مرويات ومظلوميات وقصص واقعية وخيالية عند كل طرف وكل طائفة، كثيرة كانت أم قليلة، وفي ظل المصالح المتضاربة للقوى الاقليمية والدولية المؤثرة.
ربما بات جلياً لكل متابع، أن الحراك السياسي والديبلوماسي بعد الاتفاق النووي بين الدول الكبرى وإيران، أصبح أكثر جدية وأكثر حماساً لإيجاد المخارج السياسية للأزمة السورية. لكن مخرجاً سياسياً قائماً على استعادة “الديكتاتورية الطائفية” التي مثلها النظام أو أشباهه الإسلاميون في المقلب الآخر، ليس مخرجاً بأي حال، إن لم يكن مدخلاً لتوسيع الحرب خارج الحدود وضد الرغبة الدولية، كما أن مخرجاً سياسياً قائماً على تمكين ديكتاتورية وطنية، غير ممكن واقعياً لعدم وجود أي شخصية وطنية مُجمَع عليها من قبل السوريين، أو حتى قابلة للإجماع الوطني. كما أن حلاً سياسياً باعتماد الديمقراطية الوطنية في دولة مركزية هو أيضاً خارج الحسبان كما أشرنا في البداية. ولذلك نرجح أن تتجه الحلول نحو نوع من “الديمقراطية التوافقية” في دولة واحدة لامركزية. وإن كانت الديمقراطية التوافقية ترفع الطوائف والاثنيات إلى وحدات سياسية، وإلى حيز السياسة على الطريقة اللبنانية سيئة الصيت، إلا أن أكبر المخاوف هو أن تؤدي الواقعية السياسية المعتمدة دولياً والمفروضة داخلياً إلى الدخول قسراً فيما نخاف منه ونخشاه ونؤجل الكلام فيه كما هي العادة. ولذلك فإن نقاشاً هادئاً وعقلانياً وعلنياً لابد أن يتناول هذا الخيار من بين خيارات أخرى مطروحة لسوريا المستقبل، ولكن بدل اللجوء الدائم لفروض الأمر الواقع، أي نقاش الحدث بعد حصوله، نجد أن نقاشاً مسبّقاً للممكنات من هذا النوع يغني التفكير السياسي ويوسع دائرة العمل السياسي مستقبلاً.
السياسة الدولية والاقليمية خارج سوريا وتجاهها بدأت، يبقى أن تبدأ السياسة داخل سوريا، تلك التي لن تبدأ مهما طال الزمن، قبل رحيل هذا النظام.
ماهر مسعود، كاتب وباحث سوري، ماجستير في الفلسفة الغربية.