في التسعينات من القرن الماضي، انشغل الرأي العام الفرنسي بقضيّة الطبيب المجرم جان كلود روماند. بدأت قصة الرجل مع كذبة بسيطة، عندما كان على وشك أن ينهي سنته الثانية في كلية الطب؛ حيث لم يستطع طالب الطبّ الحضور إلى الامتحان الذي يؤهله للترفع إلى السنة الثالثة، ولكون الشاب ينتمي إلى عائلة كانت شديدة التحفّظ حول كل ما يتعلق بفشل أحد أفرادها، ولكونها كانت تبني آمالاً أكثر من اللازم على ابنها الوحيد وترسم له مستقبلاً أكبر من طاقته، أو رغبته حتى، فقد اختار الشاب لنفسه تجنّب مواجهة أهله بحقيقة فشله في الترفّع إلى السنة الثالثة، وبذلك يكون قد آثر الدخول في متوالية غير منتهية من الأكاذيب..
تضخّمت كرة الأكاذيب، لدرجة أنّ العائلة كانت تعتقد أنّ ابنها تخرّج من الكلية، وباشر مزاولة مهنته، ثمّ توظّف كباحث في المقرّ الرسمي لمنظمة الصحّة العالميّة في جنيف، بالقرب من بلدته الفرنسيّة التي تقع على مقربة من الحدود السويسرية، في حين أنّ الحقيقة كانت مختلفة كليّاً؛ فقد كان طالب الطب قد طرد من الجامعة بعد سنوات لتغيّبه المتكرّر عن الامتحانات، علماً بأنّه كان دائم الحضور وشديد الاهتمام بالمحاضرات!
استمرّت متوالية الكذب مدّة 18 عاماً! تزوج خلالها الطبيب “الوهم” وأنجب طفلين، وكانت حياته بالنسبة لمن حوله أقرب ما تكون إلى المثالية؛ فقد كان يغادر منزله صباحاً إلى مركز البحوث “الوهمي” يمضي يومه ويعود في المساء، ولكنّه كان، في الحقيقة، يمضي وقته في الطرقات، أو في مكتبة قريبة من بيته يقرأ فيها ما يلزمه من معلومات في الطب، وقد كانت معلوماته غزيرة، بما لا يترك مجالاً لمن حوله للشك في كفاءته الطبيّة..
ولأنّ الهالة التي رسمها حول ذاته كانت تتطلّب مستوى ماديّاً واجتماعيّاً معيناً، فقد كان بحاجة إلى مورد ضخم من المال، مما دفعه للاحتيال على والديه وأصدقائه، بحجة أنّه سيقوم بإيداع المبالغ في بنوك سويسرية، وبذلك يحصل أصحاب المال على فوائد أكبر بعد التهرب من الضرائب الفرنسية..
استمر الحال على ما هو عليه إلى أن بدأت الحقيقة بالظهور.
حدث ذلك مع زيادة إلحاح أصحاب المال على الفوائد التي وعدهم بها الطبيب، ثمّ ماطل في وعوده إلى درجة لم يعد بإمكانهم تحمّلها، بالإضافة إلى ازدياد شكوك زوجته، وتراكم الأسئلة التي باتت معلّقة بدون أجوبة مقنعة..
وحين بات كل شيء مهدداً بالانهيار: السمعة الوهميّة، ومظاهر الترف القائمة على أموال أقرب المقرّبين للعائلة، وقصّة النجاح الأسري لطبيب وهب حياته لعمله على مدى عشرين عام، لجأ جان كلود إلى قتل كل الذين حوله بدم بارد، كل الذين لن يكون بمقدورهم تحمّل الحقيقة القاسية: حقيقة الكائن “اللا شيء”!
بدأ جان كلود بزوجته، فقتلها بعد أن هشّم رأسها في الصباح وهي ماتزال نائمة، ثم أتى على طفليه الواحد تلو الآخر بعد أن أمضى نهار ذلك اليوم معهما، وفي اليوم التالي غادر إلى منزل والديه وقام بقتلهما. وهكذا قام “اللا شيء”، أو القاتل النرجسي بحسب تشخيص الأطباء، بحل أزمته الداخلية من خلال ارتكاب مجزرة بشعة بحقّ أقرب الناس إليه..
تذكرني هذه القصّة الغريبة بقصة سورية مشابهة؛ قصة شخص ادّعى بأنّه طبيب عيون، ونحن لا ندري حقيقةً إن كان طبيباً أم لا، ولكنّنا ندري جيداً أنّه لم يكن مؤهلاً لقيادة بلد، وبأنّه كان مُبعداً عن مسرح الأحداث من قبل والديه، كي لا يؤدي وجوده إلى صراع بينه وبين أخيه الأكبر الذي كان محلّ ثقة والده، وكان يُعدّه لوراثة حكمه، لولا أنّ القدر كان له كلمة أخرى..
وجد رئيس “الصدفة المحضة” نفسه في مكان غير مكانه، فأراد أن يثبت لمن حوله أنّه مؤهّل لحكم بلد بحجم سوريا، وقادر على إخضاع شعبه، وأنّه ليس أقل بطشاً ولا إجراماً من أبيه إن لزم الأمر..
امتلك بشار الأسد شخصيّة نرجسيّة يقتلها الغرور، لاحظها معظم الذين التقوا به. وبحسب بعض التسريبات فقد عامل أعمدة النظام من الحرس القديم بكثير من الفوقيّة والتكبّر. ومن صفات الشخصيّة النرجسيّة أنّها ترى نفسها مركز الوجود، وفي لحظة ما قد يكون صاحبها على أتمّ الاستعداد لارتكاب أيّ شيء.. مهما كان، إن وجد أنّ صورته مهدّدة.
ولأنّ مريضنا “الطبيب”، كحال كلّ نرجسي مريض، لا يستطيع إخفاء الحقيقة إلى الأبد، ولأنّ الأبد سقط أصلاً في سوريا، فكان لا بدّ أن يقوم المريض بارتكاب جريمة كبرى، فهذا أسهل عليه من الاعتراف بالحقيقة، أو الاعتذار عن أخطائه والانسحاب، بعد أن أصبحت كذبته الكبيرة في مهبّ العاصفة..
كان على ديكتاتور “الصدفة المحضة”، أو الكائن “اللا شيء”، أن يرتكب إثماً عظيماً كي يواري كذبته، ويحافظ على ما تبقى من هيبته المصنوعة رغماً عنه. ولكنّ طبيبنا “المريض” في النسخة السورية، لم يقتل والدته التي كانت تفضل عليه ابنها البكر، ولم يقتل زوجته وأطفاله، ولم يرتكب مجزرة محدودة ذهب ضحيتها بضعة أفراد من عائلته كي يغطي على فشله، كما فعل المريض الفرنسي، بل قام الأسد النرجسيّ بتدمير البلد التي صدّقت أكذوبة الطبيب المهتمّ بالإصلاح والتحديث..
دفع المجتمع ثمن تصديقه لأسطورة بدأ التحضير لها منذ أواخر التسعينات.. تقول تلك الأسطورة: إنّ الديكتاتور الأب، الذي قُتل في عهده عشرات الآلاف ميدانياً أو تحت التعذيب، سيترك للناس من بعده شاباً طبيباً مصلحاً، وسيقوم الأخير بتجديد النظام وإصلاح ما فسد من قبل!
انهارت الأكاذيب كلّها دفعة واحدة، وسقط نظام الأساطير، ذلك الوحش صاحب عشرات الرؤوس المخابراتيّة، ولكن الثمن كان باهظاً للغاية: عاقب النرجسي القاتل أولئك الذين اكتشفوا مرضه، وحطّموا هيبة نظامه، ولعنوا روح والده، فقتل منهم نصف مليون، وشرّد بضعة ملايين، وهدم البلد فوق رؤوس البقيّة..
وللجريمة بقيّة..
كاتب سوري