منذ قيام الكيان السوري تواطأت السلطات السياسية والثقافية على تجهيل الواقع، أي جعله مجهولاً، وعلى تجهيل الشعب، أي جعله جاهلاً؛ مع أن التعليم قد توسع توسعاً ملحوظاً. لكن بعض التعليم تجهيل، حين يغلب عليه التلقين الأيديولوجي، كما هي الحال منذ ستينات القرن الماضي، وخاصة تعليم اللغة وعلومها وآدابها التقليدية، واعتبار أن كل ما تقوله اللغة حقائق كلية ونهائية، لا يرقى إليها شك، واللغة هي الفكر ونظامها نظامه. وكذلك تعليم التاريخ، وتصوير الطغاة أبطالاً، وتعزيز أوهام السبق الحضاري، وليس من سبق، وأوهام المركزية الإثنية (القومية) والذكورية وتزيينها، تحت مقولة: “كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر”، التي أسست التعصب الإثني – المذهبي، وفكرة الملة الناجية، من جهة، وحصرت سلطة الأمر والنهي في الملة الغالبة والعصبية الغالبة، وأقامت العلاقات الاجتماعية والسياسية على مبدأ الغلبة وقوة الشوكة وتقديس السلطة وعبادة السلطان.
يضاف إلى ذلك تعليم التربية الدينية وفق مذهب بعينه، واعتبار الأساطير الدينية حقائق تاريخية وكونية، ولا سيما أسطورة الخلق التوراتية وفكرة الخليقة، التي تنفي حرية الإنسان وتسوغ تبعيته أو عبوديته لقوة مفارقة، ليست في التحليل الأخير سوى السلطة، بوجهيها السياسي والديني.
ورث الكيان السوري عن السلطنة العثمانية نظام الملل ومبدأ الأكثرية والأقليات، أو استبطنهما في بنيته العميقة، وإن غلفهما بخطاب عروبي “قومي”، جعل من سوريا “قلب العروبة النابض”. ولم تفعل الحكومات المتعاقبة والنخبة الثقافية والأحزاب السياسية شيئاً يذكر في سبيل الاندماج الاجتماعي، الوطني، وبلورة هوية وطنية سورية، فظلت الطوائف المذهبية والجماعات الإثنية كيانات مغلقة ومتحاجزة لكل منها مرجعيتها الثقافية، تحافظ عليها وتعيد إنتاجها.
ما من شك في أن الأوروبيين سيَّسوا “مسألة الأقليات”، في السلطنة العثمانية، ولكنهم لم يخترعوها، وإن كانت من معطيات ماضيهم. وما من شك في أن المستعمرين الفرنسيين عمقوا الفروق بين الإثنيات والمذاهب، واستثمروها، لتعزيز سلطتهم، ولكنهم لم يخترعوها أيضاً.
الاستبداد السياسي المحدث وثقافته “القومية”، التوحيدية، “المحوَّلة عن عقيدة دينية،” أعادا إنتاجها تحت مقولات: المجتمع العربي، والمجتمع العربي الإسلامي، والتاريخ العربي، والتاريخ العربي الإسلامي، والثقافة العربية أو العربية الإسلامية، وأضفيا صفة العروبة على الشعب والوطن والدولة، مع أن في المجتمع السوري من هم غير عرب وغير مسلمين، ومسلمون من مذاهب مختلفة ومتخالفة، والتاريخ تواريخ هؤلاء جميعاً والثقافة ثقافاتهم.
هذه المقولات، التي تفترض كل منها تجانس المجتمع ونقاءه إثنياً ومذهبياً، كان لها فعل مزدوج في الوعي والممارسة: توحيدي وتفتيتي؛ ففي حين كانت الممارسة الخطابية تدعو إلى التوحيد، تحت راية العروبة أو تركيب هجين من العروبة والإسلام، كانت تستبعد غير العرب وغير المسلمين، وكانت الممارسة العملية تمعن في التفتيت، لا بفعل نظام الولاءات والامتيازات وآليات الاصطفاء والتهميش فقط، بل بفعل المنطق الإحيائي، البعثي، لأيديولوجية السلطة أيضاً. فلا تكون طائفيةٌ إلا حين تصير الأيديولوجيا سياسة وثقافة.
المقولات المشار إليها، هي لب ثقافة السلطة، وهي مقولات اغترابية وتغريبية، تخرج غير العرب وغير المسلمين، حسب المتكلم، من دائرة الأمة، أي من دائرة المجتمع والشعب والوطن والدولة، ولا ترى فيهم سوى غرباء، ينبغي استتباعهم أو إقصاؤهم، وتجريد غير الموالين والتابعين منهم من الأهلية القانونية والأخلاقية، فتحول دون اندماجهم في الحياة العامة وحياة الدولة. وهكذا تغدو السلطة أمة قائمة بذاتها، ومجتمعاً قائماً بذاته، وشعباً قائماً بذاته، ويغدو الوطن وطنها والدولة دولتها: “سوريا الأسد”، و “دولة البعث”.
الجهل بمصدر السلطة وأصول الاستبداد وفصوله، الذي يغرسه النظام التعليمي، وتعززه الأيديولوجية “القومية”، ويعمِّمه الإعلام، ويحرسه العسكر وقوى الأمن، والشعور بالعجز إزاء السلطة والتبعية لها، تولد كلها معاً نوعاً من الاغتراب يشبه الاغتراب الديني، الذي أساسه الجهل والشعور بالعجز إزاء الطبيعة والتبعية لها، فيتماهى اعتباط السلطة باعتباط الطبيعة، التي لا حول إزاءها ولا طول، وبفكرة القدر الذي لا مفر منه، والقدير الذي لا ملجأ سواه.
فقد لاحظ عبد الله العروي أن رموز الحرية في الثقافة “العربية الإسلامية” هي البداوة والتقوى والتصوف؛ المنبوذون من عالم السلطة، على نحو ما وصفناه، يؤوبون إما إلى العشيرة وإما إلى الملَّة وإما إلى الطرق الصوفية، أي إنهم يهربون من الاستبداد إلى ملاذات وهمية من أجل حرية وهمية، لكي يتمكنوا من تحمل شظف العيش ومرارة الهامشية وانعدام القيمة وذل الحياة وغطرسة القوة. “الفقر في الوطن غربة” وذل وعجز وهامشية. ومن ثم فإن الجماعات المهمشة تعيش غريبة في ما يفترض أنه مجتمعها ووطنها ودولتها. هذا الاغتراب في الوطن هو سبب الاغتراب منه، أي سبب الهجرة، الطوعية أو القسرية، وأساس الاغتراب عنه، والعامل الرئيس في إنتاج الطائفية. بما هي اغتراب عن الوطن، ونسق لتوليد العنف والإرهاب.
الاغتراب عن الوطن، بالتعريف، هو عدم الاعتراف بالآخر المختلف شريكاً في الحياة العامة وحياة الدولة، وعدم الاعتراف بشرعية الدولة القائمة بالفعل وسيادتها، وعدم الشعور بالانتماء إلى الوطن أو الفضاء العام، وعدم الشعور بأي التزام قانوني أو أخلاقي إزاءه، وعدم الشعور بالمسؤولية عن مصيره.
الطائفية المذهبية، بما تنطوي عليه من أصولية وتعصب وتطرف، وبما هي اغتراب عن الوطن، هي هذا العدم المتمادي، المكافئ للإرهاب، الذي دأبت السلطة على إنتاجه، ثم على استقدامه من الخارج، وغدت قادرة على تصديره.
فحين يكون الوطن وطن السلطة والدولة دولتها، وتكون المعارضة السياسية وحرية الرأي والتعبير محرَّمة ومجرَّمة ومخوَّنة أو مكفَّرة، وسبل الإصلاح أو التغيير السلمي مغلقة وآفاق الحياة الكريمة مسدودة، فإن مقاومة السلطة تتخذ شكلاً طائفياً، عدمياً، هو العمل على تدميرها، سلطةً ودولةً ووطناً، وذلكم هو الإرهاب. فالإرهاب، وفق هذه الرؤية وليد الواحدية والاستبداد، والثمرة المرة للاغتراب في الوطن.
كاتب وباحث سوري