مجلة طلعنا عالحرية

الطائرات تطير

45275

الطائرات تطير من الغرف المجاورة إلى الحمام..

الطائرات تطير

والأشجار تسقط

والمباني تخبز السكان

فاختبئي بأغنيتي الأخيرة

أو بطلقتي الأخيرة يا ابنتي..

قد تصلح الأبيات السابقة من قصيدة “مديح الظل العالي” للشاعر “محمود درويش” كمدخلٍ يصلح لشرح جزءٍ من صورة الحياة في الداخل السوري.

لا تكف الطائرات بمختلف أنواعها، وجنسياتها عن التحليق، وإلقاء حممها وقنابلها على السكان.

قبل عدة صباحاتٍ تغير مشهد السماء، دخانٌ أبيضٌ دائريٌ، متعرجٌ ارتسم في الأعلى، هي نفس الخطوط التي اعتدنا مشاهداتها أيام الصبا في سماء ريف دمشق الغربي، كانت بلا شك للطائرات الإسرائيلية التي عرفناها جيداً، والتي اعتادت القيام بنزهاتها الصباحية في أجواء الممانعة السورية ــ اللبنانية.

الطائرات الإسرائيلية عادت لأجوائنا من جديد، لكن هذه المرة لم تكن وحيدةً، فطائرات النظام التي لم تكد تترك مكاناً لم تزره ببراميلها، وصواريخها، تلازمها أيضاً، وإن كانت لا تستطيع التحليق بمحاذاتها وعلى نفس علوها، كما تصحب تلك الطائرات، طائرات أخرى للتحالف الدولي، والتي تلقي بدورها أطنان القذائف والمتفجرات على مناطق شمال، وشمال شرق البلاد، وكان أن أصابت ‘‘صواريخها الذكية’’ عديد المرات مدنيين، وأطفالاً سوريين.

قد تتمثل المفارقة الكبرى اليوم بأن الطائرات الإسرائيلية هي الأقل خطراً على السوريين، فوجودها في الأجواء لا يدفعهم للشعور بالخوف، ويبدو أن بعض انطباعاتهم وأفكارهم السابقة عنها قد تبدلت، هذا لا يعني أن إسرائيل لم تعد تشكل تهديداً أو خطراً، أو أنها لم تعد دولةً معاديةً، فهي لا زالت، وربما ستبقى كذلك، كل ما يعنيه ذلك ببساطة، أن الخطر المباشر على حياة السوريين وأرواحهم ليس مصدره إسرائيل، فطائراتها ــ الآن على الأقل ــ لا تستهدفهم، ولا تقتلهم، ذلك أن طائرات ‘‘نظامهم’’ تتكفل بموتهم، وكانت طائرات النظام قد نالت شهرة سابقة من سقوطها في معارك لبنان، في ما عُرف بيوم مجزرة الطائرات، حينها لم يتبق من الأسطول الجوي السوري إلا عشرات الطائرات القديمة التي يسخرها النظام اليوم لإلقاء براميله، وكم يتمنى كثيرون ــ وأنا منهم ــ لو خسر النظام آنذاك أسطوله الحربي كله.

هل شعور كهذا يعد نوعاً من الخيانة؟ هل فقد السوريون غيرتهم الوطنية؟

الحقيقة، إن الإجابة على هذا السؤال ليست هينةً، فالإشكالية التي يطرحها تحمل تعقيدات مركبة، خصوصاً في ظل الظروف الراهنة، وهذا ما يجعل طرحه، بهذا الشكل البسيط، ومحاولة الإجابة عليه بصورة قاطعة، أمراً يحمل نوعاً من الاستسهال غير المقبول ولا المبرر، فلا يمكن مسائلة “مواطنين” يواجهون الموت، والتشريد، والجوع، والبرد منذ أكثر من ثلاث سنوات، بسبب حربٍ عدوانيةٍ إجراميةٍ يخوضها ضدهم “جيشهم الوطني”، ويستعين عليهم بالمرتزقة والمليشيات الأجنبية، بعدما فتح “نظامهم الوطني” البلاد وأجواءها أمام كل أنواع التدخلات الدولية والإقليمية لتبرير مجازره، وفوق ذلك رهن ما تبقى من اقتصاد مقابل الاقتراض لتمويل حربه، عن عدم خوفهم من طائرات إسرائيلية لا تقصفهم، ولا عن ضعف شعورهم بـ “الانتماء”، ولا عن برودة مشاعرهم “الوطنية”، والتي قد لا يوجد مبرر لها بالأساس، فلطالما كان معنى “الوطن” في ظل النظام الشمولي مختصراً في شخص ‘‘الرئيس’’ وعائلته، ولطالما اختُزل مفهومه بباقة من الكلمات المرسلة الخالية من أية قيمة أو مضمون، كالأرض، والعَلَم، والجيش، وغيرها.

لم يكن للوطن عند السوريين في يومٍ من الأيام أي مفهوم حقيقي بالمعنى السياسي، أو الاجتماعي، ذلك أن الوطن قبل أن يكون أرضاً، ودولةً، هو مجموعة بشرية (شعب)، مجتمع من أناس يعيشون معاً ويتمتعون بالسيادة، تجمعهم علاقات، وروابط، وآمال، وأحلام، وتوحدهم تطلعات، ورؤى، وأهداف مشتركة، يحكمهم ‘‘عقدٍ اجتماعيٍ’’ ينظم شؤون حياتهم، ويؤطر علاقاتهم في ضوء القانون، وعلى أسس الحق والواجب والمسؤولية، فيختارون به شكل الحكم، والنظام الذي يناسبهم، ويحددون الأدوار والوظائف التي ينبغي على سلطاتهم تحقيقها، ويقررون الالتزامات والضمانات والجزاءات التي تضمن الوصول لتلك الغايات، لكن السوريين لم يتحصلوا على شيءٍ من ذلك سابقاً. 

العواطف، والمشاعر لا تكفي لإنشاء ‘‘العلاقات الوطنية’’، وتأسيس الدول، فالوطن ــ الدولة لا يقوم بالدرجة الأولى إلا على أساس المصالح المشتركة لمجموع ‘‘المواطنين’’، وفي إطار القانون والمؤسسات، وعلى مبادئ كالحرية، والعدل، والمساواة، والتوازن في توزيع الموارد والثروات، وغيرها، وبموجب نظام يحدد السلطة ويضبط علاقاتها، ويقنن استخدامها للعنف والقوة، وفي غياب هذه لن تنفع النظريات، والحكايات، والأشعار، والأغنيات ‘‘الوطنية’’، ولا يجوز محاسبة أحد على فقده لما يسمى بـ ‘‘الانتماء الوطني’’.

قبل الغارات الإسرائيلية الأخيرة على مطاري دمشق، والديماس، ذرعت طائرات العدو سماء الوطن لأيام، دخانها الأبيض بقي ساعات معلقاً في الجو، وفي صباح اليوم التالي للغارات، كان جيش ‘‘الوطن’’ مستمراً بقصف المدن، فيما استبدلت إذاعات ‘‘الوطن’’ الرسمية والخاصة فقرات الأبراج، ونقاشات المذيعات الصباحي التافه، بالأغاني الوطنية العظيمة، كأغنية ‘‘حماك الله يا أسدُ’’ (بعد نزع صوت المطربة “أصالة” منها)، كنوعٍ من الرد على العدوان، ربما، أو على سبيل إظهار شعور شعبنا بـ ‘‘التلاحم الوطني’’.

وبعد أيام عادت الطائرات الإسرائيلية للتحليق ‘‘فوق سقف الوطن’’، في الوقت الذي كان أبناؤه المؤيدون، والمعارضون، و‘‘المحايدون’’ يشتبكون على صفحات التواصل الاجتماعي بسبب ‘‘العلم الوطني’’ الذي لم يُرفع في برنامج “أراب أيدول”، قال بعضهم كان يجب رفع العلم الأحمر ذي النجمتين، وقال آخرون لا بل الأخضر ذي الثلاث، وربما فكر غيرهم بالعلم ‘‘الأسود’’ عديم النجوم..

وكأن للعَلَم قيمة عندما يغيب الوطن، ويموت أبنائه،  ويُعتقلون، ويشردون.

الطائرات الإسرائيلية تواصل التحليق فوقنا، وطائرات النظام لا تزال تقصف، وفي رأسي تسقط كلمات “ محمود درويش” محورة: الطائرات تطير

والبراميل تسقط

والبنايات تخبز السكان

فلا تخافي الموت يا ابنتي..

وفي أعماقي تتفجر معانٍ:

كم كنت وحدك يا ابن أمي

يا ابن أكثر من أبٍ

كم كنت وحدك..   

Exit mobile version