Site icon مجلة طلعنا عالحرية

الضياع السوري

83979-640_108108_large

من أكثر المفاهيم تعبيراً عن الحالة السورية وتجسيداً لها هو مفهوم الضياع. وهو مفهوم وجودي يتعلق بحالة الضياع التي نحياها نحن السوريين الآن، إن كان على المستوى المعرفي النظري/العملي؛ بمعنى غياب الهداية التي تتوارى خلف ضياع الاتجاه والبوصلة وضياع الاصطفاف ونقاط العلاّم، والتي من الممكن أنْ تُخرجنا من الضياع في حال اهتدى السوريون إلى مشروع يجمعون عليه، أم بمعنى الفقدان (lose) الذي يظهر بفجاجة بفقدان الإنسان والمكان والزمان والملكية.
وهكذا تحول وجودنا إلى وجود لحظي، لا يتصف بالديمومة من بعيد أو من قريب، وهو بهذا الشكل حالة حديِّة قلما مرت بها البشرية تحت طائلة فقدان الوجود والموجود بالموت والعدم وفقدان فكرة الخروج من هذا الضياع. من هنا يبدو أن مفهوم الضياع، رغم عدم التنظير له وجودياً، يتجاوز مفاهيم وجودية أخرى كالقلق والغثيان والقرف… ويلتصق بالفلسفة الوجودية بشكل عميق وأساسي. فالفرق كبير جداً بين أن تقلق على وجودك وتشعر تجاهه بالغثيان أو القرف وبين أن تتعرض وجودياً لفقدان وجودك ما بين لحظة وأخرى.
لمفهوم الضياع استخدامات معرفية (إبستمولوجية) تتناول حالة الضياع الفكري التي لم تُنتج نموذجاً معرفياً أو (برادايماً حسب توماس كون) يكون بديلاً للنموذج السائد مما يساعد بالتقدم الثوري من خلال إزاحة نموذج وإحلال آخر محله. واستخدامات نفسية (سيكولوجية) تبحث في حالة الفرد النفسية المتسِّمة بالتفكك الشخصي وعدم معرفة أين السبيل والتوجه، وتناول “اللاشعور السياسي واللاشعور المعرفي واللاشعور الجمعي” للسوريين. واستخدامات اجتماعية (سوسيولوجية) ترتبط بغياب المعايير أو القواعد المحددة للسلوك الاجتماعي/السياسي، أو بعدم وضوح هذه المعايير، أو بصراعها مع بعضها البعض.
تستطرد الباحثة المصرية “هند طه” في استعراض الخلفية التاريخية لمفهوم الضياع في علمي النفس والاجتماع حتى تصل إلى تعريف عام لمفهوم الضياع وتحدده على أنه “حالة نفسية يشعر الفرد فيها بفقدان التوجه، واليأس، وعدم الرضا، وفقدان الطمأنينة، والميول الانتحارية”. وبالإضافة لهذا نجد عندنا أن الضياع حالة معرفية أيضاً يتمثل بالضياع المعرفي عند النُخب والمجموعات السياسية والثورية الفاعلة التي لم تنتج مشروعاً للتغيير يهدي ويرشد عملية التغيير.
ويمكن القول مع (إلياس مرقص): “إنَّ هدف المعرفة هو إنشاء صورة الواقع، وعندئذ، وعندئذ فقط، تستطيع المعرفة إرشاد العمل. أما إذا أنشأت المعرفة قانوناً ومفهوماً وجوهراً للواقع، فإنَّها تنتهي إلى تبديد الواقع في مجرّد أثيري يسمّي نفسه القانون وما شابه. عندئذ تنحط المعرفة إلى دعاية وتبشير، والعمل يسلّم نفسه للتجريبية في أحسن الأحوال. وفي الحال الأسوأ، توجه المعرفة العمل لكنها لا ترشده، بل تدّله على الضلال، تأمره بالضلال والشرود والحماقة والمحال”.
يحتاج الشعب السوري للخروج على الضياع ومنه بعض نقاط العلاّم الضرورية والمبسطة؛ أي خارطة طريق تقارب الحقيقة. فالخروج على الضياع ومنه هو الخروج من حالة “خبط عشواء” التي نعيشها حالياَ، وخروج على نماذج التفكير السائدة في آن. فالتقدم الثوري يتشكل من إزاحة نظرية عامة سائدة قد أصبحت لا تفسر الحقائق الجديدة، واستبدالها بنظرية جديدة يمكنها تقديم تفسيراً للحقائق الجديدة أكثر إقناعاً من النماذج القديمة. إنَّ إيجاد الشعب السوري لسبيله في أراض غير معتادة مثلما هو الوضع الآن، يتطلب عموماً خريطة من نوع ما. والحق يقال إنَّ فن رسم الخرائط مثله مثل عملية الإدراك نفسها؛ إنه تبسيط ضروري يسمح للسوريين بأن يروا أين هم وإلى أين يسيروا. وتساعد نقاط العلاّم هذه إن وجدت على: 1- التنظيم والتعميم حول الحقيقة. 2- فهم العلاقات بين الظواهر والتموضعات. 3- توقع التطورات المستقبلية. 4- توضيح الطريق الذي يجب أنْ نسلكه والاصطفاف الذي يجب أنْ نصطفه. 5- تمييز الهام من غير الهام.
إنَّ الشعب السوري اليوم بحاجة إلى خريطة تكون في آنٍ مصّورة للحقيقة ومبسطة لها بطريقة تخدم أغراضه ومشروعه بالحرية والكرامة على أفضل وجه؛ لأنها تساعده على تقويض الضياع المعرفي وتجعله عارفاً طريقه.

Exit mobile version