أثناء تنقلي بين مدن الجوار السوري (عمان، بيروت، غازي عنتاب)، حيث المجتمعات المؤقتة التي بناها السوريون، الهاربون من القمع والقصف أو المستفيدون والمعتاشون من الحرب، متنقلاً بينها وبين المناطق المحررة، كانت السمة المشتركة في هذه المجتمعات: المزاجية العالية، والتقلبات النفسية الكبيرة بين حزن وفرح شديد، وعدم مبالاة، ونوبات من العنف المفرط تجاه الذات وتجاه الآخر.
الشعور القديم الذي كان ينتابني قبل خمسة أعوام في سورية هو ذات الشعور الذي انتابني قرب الأسقف المنهارة، حيث يرتسم خط أسود رفيع يمتزج بالأدخنة المتراقصة التي ترسمها رؤوس البراميل. حينها كنت أمارس عملية إيهام تلت السنة الأولى للثورة، تغليف شعور الألم والمرارة بانتشاء ثبات وانتصار “القيمة”. في المشهد العريض لمدينة تحترق من السماء والأرض داهمتني كلمة مكتئب من (ع.م). لم أفهم في البداية سبب توصيفه، لكن اكتشفت لاحقاً أنه حقيقة الإحساس الذي انتابني: لا بد أنه اكتئاب حاد. فما هو المفرح في سقوط الصواريخ والبراميل؟ ما هو المفرح في أبنية تنهار على رؤس أصحابها، ومعارك طاحنة تصل الليل بالنهار؟ ما هو السبب لنوبات الضحك الهستيرية التي نمر بها؟ انتبهت! وتسألت، متى بدأ ذلك الاكتئاب؟
المرة الأولى التي أصابني فيها تقلب مزاجي حاد وحالة من القنوط واليأس* في مخيم اللاجئين في مدينة الرمثا قبل أن يستحدث مخيم الزعتري. في القبو المحشورين فيه كإسطبل تعرفت على مجموعة كبيرة من السوريين علت نظرات الانكسار رموشهم المخذولة. وفي محاولة لترميم صورتنا الداخلية كنا نسلّي أنفسنا بالغناء للثورة. قطع الغناء رجل في الأربعين من عمره تنهد بصوت عال ثم قال: “طلعنا نهتف الموت ولا المذلة، هربنا من الموت وإجينا على المذلة بإجرينا”…
يتحدث الكثير من علماء النفس عن الاكتئاب، وثمة أبحاث كثيرة تناولت موضوع الاكتئاب بوصفه أحد أمراض العصر، وفي محاضرة للعالم جاك فريسكو نشرت على اليوتوب* يضع تعريفاً بسيطاً لمرض الاكتئاب يوصف تعقيد الحالة التي نعيشها: هو فقدان الهوية والخلل في الصورة الذاتية للإنسان. وهذا التعريف بوابة لمقاربة الحالة السورية، ليس على اعتبار أن توصيف ما يحدث بأنه “اكتئاب” هو الإستثنائي، بل على اعتبار أن الثورة كانت بمثابة علاج جماعي من حالة اكتئاب عامة كان يعيشها المجتمع السوري وهذه النقطة الاستثنائية في المقاربة.
قبل بدء الثورة السورية، تعرضت أجيال متتابعة لتدمير ممنهج في البنية النفسية خلال الأربعين سنة المنصرمة. سعى النظام خلالها إلى تحطيم الصورة الذاتية للإنسان السوري، من خلال ممارسة القهر الدائم على طبقات المجتمع بما فيها الطبقات الغنية، “فالإنسان المعرض لكل مفاجأة قد تحمل المصيبة أو الخير ليس أكيد البتة من أي ضمانات فعلية لذويه”. ربما تعد هذه النقطة واحدة من أهم العناصىر التي تدفع الإنسان إلى حالة من الاكتئاب التي تجعله غير فاعل، ومنزو، وغير قادر على الإبداع*. رافق ذلك في سورية حالة من الإحباط الواسعة التي كانت تبحث عن تنفيسات إما عن طريق السفر أو عن طريق الأشكال المتعددة للإدمان* أو توجيه الإحباط نحو قضايا كبرى مثل القضية الفلسطينية.
قرب الحدود الممتدة التي عبر منها آلاف المهاجرين الذين حملوا معهم، فلسفة التوحش* جلست مع شاب في الخامسة والعشرين من عمره يدعى أبو قتيبة: كان يصف لي وهو يراقب الرايات السوداء التي تكلل السيارات الجبلية روعة الخروج في مظاهرة، قال لي: “كانت المظاهرة نافذة كبيرة فتحت في حياتي. كنت أستطيع من خلالها أن أشعر”.. يقول ذلك ثم يمضي وهو يكبر بين الجموع.
إن الجزء الأساسي والمهم في الثورة أنها رممت الصورة الذاتية للإنسان السوري، وجعلته يخرج من حالة إحباط واسعة، ترافقت بفرحة عامة أدت الى مظاهر الرقص والفرح والغناء بالدرجة الأولى، وبالدرجة الثانية محاولة شريحة واسعة للعمل في مجلات إعلامية وفنية للتعبير عن الهوية والذات. فالصورة الذاتية هي جزء من الصورة العامة للمجتع. إنها صورة الأفراد تجاه بعضهم البعض التي تنتج الثقافة العامة. وخلال حكم النظام أنتج في أرضيته نوعاً من الصراع بين صورة الفرد تجاه نفسه وصورته تجاه الآخرين. إن الكلمات التي كانت تصنف السوريين تجاه بعضهم البعض هي جزء من الصورة العالمة الناتجة عن الصورة الذاتية المتصدعة أو المفقودة. ولقد أصبحت المدن الجغرافية والثقافة بحد ذاتها نموذجاً منقوصاً “غيرياً” يستحقّ السخرية والاستخفاف وحتى نفي المدنية عنه واتهامه بالدونية.
كثيراً ما تذكرني مدينة عنتاب بمنافي سيبيريا التي كان ينفي إليها قيصر معارضيه. المدينة مرتبة وهادئة بطريقة فظّة كما أنها لا تحمل أي طابع من الممكن أن يجد السوري فيه أي ترميم لصورته الداخلية أو انتماء ما يحقق له نوعاً من التوازن. وعلى الرغم من وجود شريحة كبيرة من الناشطين الميسوري الحال بحكم عملهم مع منظمات أجنبية، إلا أن الإحباط الناتج عن قرب المدينة من سورية يولد حالة شديدة من الإكتئاب. في أحد المقاهي في مدينة عنتاب اجتمع شابان أحدهما في الجيش الحر والآخر يعمل لدى منظمة أجنبية، كلاهما تشاركا ذات الكآبة التي يعبر عنها بأمزجة متقلبة حادة، فكلاهما يعاني من اهتزاز في الصورة الذاتية وشعور بالإحباط والدونية تجاه الآخر. يعود ذلك تبعاً للتصنيفات التي خلقتها الحرب، والاصطفافات والاختلافات العقائدية والسياسية .. الخ.
بالعودة للثورة السورية، شكلت المضاهرات أولى الخطوات نحو كسر التنميطات التي تساهم في الاكتئاب والتي لم تشمل فقط مؤيدي الثورة إنما تشمل أيضاً مؤيدي النظام؛ فقد خلقت المظاهرات في بدايتها هامشاً من الحرية الذي وضع مسألة الهوية ضمن النقاش، وعاد سؤال الهوية سؤالاً جوهرياً في حياة الكثير من السوريين. شريحة كبيرة من موالي النظام يشعرون بالحنين إلى بدايات الثورة. في أحد النقاشات الدائرة على صفحات التواصل الاجتماعي “فيس بوك” يعلق أحد الموالين في نقاش مع آخر معارض: “ما حدا كان ضد المظاهرات كنا كلاتنا مبسوطين بس بعدين قلبتوها إرهاب”.
لا يمكننا الحديث عن الاكتئاب دون الإشارة إلى أنه مرتبط في العمق بالعبودية التي ينتجها النظام العالمي الذي يسعى لسيطرة حكم النخبة والاستفادة من الأكثرية العاملة لرفاهه واستعباد الطبقات الفقيرة. إن المسألة برمتها وبأبسط التعابير تتعلق بخلق إنسان منعزل عن الآخر، مليء بالعقد والأمراض النفسية والجسدية من أجل القدرة على استعباده. وبهذا المعنى فإن الثورة وتحرير الإنسان من عبوديته هي العلاج الحقيقي لحالات الاكتئاب، ووفقاً لذلك كان لابد من تحويل الثورة إلى حرب من أجل تصديع صورة السوري عن نفسه وتركه عرضة لنهش الذات وتدميرها سواء بالطريقة المباشرة وهي الاقتتال أو عن طريق إنتاج أجيال محبطة ليس لديها ثقة بصورتها وثقافتها وماضيها ومستقبلها.
تسحرني البحيرة الممتدة في عمق الشاشة، أتخيلها مكاناً مناسباً لكتابة رواية ساخرة تتمحور عن الاكتئاب. علاقة حبيبين يتخللها مواقف وانهيارات تراجيدية، في حين تبدو لصديقهما الثالث شيئاً من التهريج يبعث على الضحك. لكن سحنة صديقي الهارب من الغوطة، الواصل حديثاً لألمانيا تعيدني إلى الواقع. نتحدث طويلاً عن الثورة والمعارك والخيانات. يصمت ومن ثم يقول لي: “هل رأيت صور المجزرة اليوم؟” نصمت مرة أخرى ومن ثم يقول: “مضى أسبوع كامل ولم أخرج من المنزل. أنا مكتئب”.
—————–
هوامش.
* تعريف عالم النفس أنجرام للاكتئاب: إضطراب مزاجي وجداني يتسم بانحرافات مزاجية تفوق التقلبات المزاجية الأخرى.
* الكثير من الباحثين وعلماء النفس ومنهم إريك فروم يرون الإبداع والتميز لا يتعلقان بميزات فزيولوجية إنما هو نتاج للبيئة الاجتماعية.
* مدخل إلى سكولوجيا الإنسان المقهور “مصطفى حجازي”
* الإدمان هنا لا يعني فقط إدمان المخدرات وإنما إدمان عادات معينة تدفع الإنسان أن يغيب عن الواقع
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج