تنجرف النقاشات السياسية كثيراً نحو ما نتمنّى أن يحصل، بدلاً من أن تركّز حول تفسير ما يحصل وما يمكن أن يحصل. بالنسبة للصفقة النووية مع إيران، فمن المفيد أن نستعرض سياق الأحداث بشكل سريع ومختصر.
بدأت الأزمة بين إيران والمجتمع الدولي منذ الثورة الإسلامية سنة 1979، واتبعت إيران نهجاً عدوانياً في علاقاتها الخارجية، ممّا أدى لفرض طبقات مختلفة من العقوبات الاقتصادية عليها، جزء هام منها مرتبط ببرنامجها النووي. وباختصار، فإن إيران سعت لامتلاك سلاح نووي، وقطعت شوطاً نحو إحراز هذا الهدف واستمرّت في العمل على ذلك، وكانت الحلول المقترحة سابقاً لإيقافها هي إما حل عسكري، أو حل سياسي، أو مزيج بين الحلّين.
الحل العسكري يعني تنفيذ ضربات جوية يقوم بها سلاح الجو الإسرائيلي، كما فعل سابقاً في العراق وسوريا، أو الطيران الأمريكي. تشير التقديرات العسكرية إلى أن الطيران الإسرائيلي قادر على إلحاق أضرار بالمنشآت النووية الإيرانية وتأخير برنامجها لسنتين، ولكنه لن يكون قادراً على إلحاق أذى جدّي بمنشأة فوردو لأنها مبنية تحت الصخر. أما اذا قام الطيران الأمريكي بالضربات فسيتم إلحاق أضرار جسيمة بالمنشآت النووية ومن ضمنها فوردو، وسيتم تأخير البرنامج أربع سنوات. إنهاء البرنامج النووي يتطلب تدخلاً برياً، وسيكون لذلك تكاليف مادية وبشرية هائلة، وهو غير مضمون النتائج بأي شكل من الأشكال.
إذاً، الحل العسكري لا يستطيع إنهاء البرنامج النووي، وهناك خطر أن يؤدي لحرب أوسع إذا ما قامت إيران بالرد مما قد يؤدي لمواجهة شاملة في المنطقة، أو حتى إذا ما ردت إيران بطرق غير متناظرة عن طريق عمليات انتقامية وتفجيرات ضدّ مصالح الولايات المتحدة وشركائها. كما أن الضربة العسكرية ستؤدي إلى سيطرة المتشددين في النظام الإيراني وتوسع نفوذهم على حساب الشخصيات الأقرب للاعتدال، وبذلك يتضاءل احتمال الدفع نحو حل سياسي، وغالباً ما ستستمر إيران بتطوير قدراتها النووية بعدها وسيصبح سلوكها في المنطقة أكثر شراسة.
بناءً على ما سبق، تابعت الدول الست (أعضاء مجلس الأمن الدائمين بالإضافة لألمانيا) بقيادة الولايات المتحدة مفاوضاتها مع إيران. يدافع مناصرو الصفقة عن المفاوضات مع إيران على أنها الحل الوحيد، ويقرّون بأن المفاوضات لن تزيل البرنامج النووي الإيراني، ولكنها قادرة على تأخيره عدد من السنوات أكثر من الحل العسكري، مع فتح الباب للمزيد من المفاوضات مستقبلاً حول ملفات أخرى.
تم الوصول للصفقة النهائية في 14 تموز (يوليو) 2015. وملخص الصفقة أن تقوم إيران بسحب ثلثي أجهزة الطرد المركزي وتزيل 95% من اليورانيوم المخصب، ويتم قطع الطريق على احتمال استخدام البلوتونيوم، وأن تزداد عمليات التفتيش، مقابل رفع العقوبات الاقتصادية عن إيران (المرتبطة بالبرنامج النووي)، علماً أن القيود على تخصيب اليورانيوم ستكون لخمسة عشرة سنة فقط. والتحدي هو ما الذي سيحصل بعد هذه المدة؟ يراهن البعض على تغيير سلوك النظام الإيراني حتى ذلك الوقت، بينما يرى آخرون أن المشكلة ستعود لنقطة الصفر حينها، وربما أسوأ.
ولهذه الصفقة معارضون كثر وبوجهات نظر منطقية ومخاوف مشروعة، سواءً في الشرق الأوسط أو الولايات المتحدة. يرى المعارضون للصفقة أن التفاوض مع إيران أعطى النظام الإيراني شرعية دولية، وسيستغل النظام الإيراني رفع العقوبات الاقتصادية في تمويل عملياته الإرهابية وعملائه في المنطقة من الخليج حتى العراق وسوريا ولبنان، وسيرفع مقدار دعمه للأسد ليزيد من إجرامه، وسيتابع تدخله في شؤون دول المنطقة سواءً بشكل سياسي أو عسكري.
وفي إيران هناك معارضون للصفقة أيضاً من المتشددين، فهم يرون أن أي صفقة مع الولايات المتحدة تضر بأهداف الثورة الإسلامية في إيران وتتعارض معها، وحاول أعضاء في المجلس (البرلمان الإيراني) تعطيل المفاوضات والتهديد برفضها حتى وإن تم التوقيع عليها.
ارتكبت الولايات المتحدة خطأ استراتيجياً في المفاوضات، فكانت فزعة من إفساد المفاوضات مع إيران بشكل مبالغ فيه، ولذلك تحاشت مواجهة إيران في أي من الملفات الأخرى، كالملف السوري، بينما كانت إيران تفاوض على الملف النووي، وتتصرف بعدوانية في الملفات الأخرى دون أن تخشى إفساد المفاوضات، وأدى ذلك لأن تتوسع إيران أمام عطالة في سياسة الولايات المتحدة. كان يتوجب على الولايات المتحدة أن تتصرف ببقية الملفات بمعزل عن المفاوضات النووية، تماماً كما فعلت إيران، تفاوض كأنها لا تواجه في ملفات أخرى، وتواجه في الملفات الأخرى كأنها لا تفاوض في الملف النووي.
واليوم، سواءً كنّا من أنصار أو معارضي الصفقة، فالصفقة تم توقيعها، والأسئلة هي عن آثارها، وما يمكن فعله، وهنا بعض النقط حول ذلك:
1 – لا شك بأن طائفية النظام الإيراني وطموحاته التوسعية لا تقل خطورة عن إمكانياته النووية المحتملة. وسياساته في المنطقة لزعزعة الاستقرار من أكبر الهواجس الأمنية إقليمياً ودولياً. والوصول لصفقة مع النظام الإيراني لا يعني أبداً أنه سيغير من توجهاته العدوانية.
2 – لا علاقة مباشرة بين نتائج الصفقة وحجم المساعدات لنظام الأسد، بالنسبة لطبيعة النظام الإيراني وتاريخه فسياسته الخارجية ليست مرتبطة بقدرته الاقتصادية بقدر ما هي مبنية على إرادته السياسية، ولم يكن على مدى العقود الماضية أي ارتباط بين وضع الاقتصاد الإيراني وسياسات النظام الخارجية. والحروب التي تخوضها إيران ليست مكلفة نسبياً لأنها تتبع وسائل غير متناظرة ولا تقوم بها على أرضها (لا تستخدم جيوشاً تقليدية، ورواتب الميليشيات في العراق وسوريا تستنزف نسبة ضئيلة من الإمكانيات الإيرانية، والكثير من المساعدات اقتصر على تقديم النفط الذي لم تستطع بيعه أصلاً في الأسواق العالمية، وجميعها لا تتخطى اثنين بالمئة من الناتج الإيراني). الوضع الاقتصادي الإيراني سيكون أفضل، ولكن لا يعني بالضرورة زيادة الإنفاق على حروب الوكالة. فهذا، وإن كان محتملاً، مرتبط بعوامل سياسية أخرى.
3 – الاقتصاد الإيراني سيتحسّن بلا شك، ولكن نسبة التحسن ليست مرتبطة فقط برفع العقوبات، وإنما بقدرة النظام الإيراني على إعادة هيكلة الاقتصاد ومكافحة الفساد، وهذه المشاكل لا تقل خطورة على الاقتصاد الإيراني من العقوبات، وإلا ستعود الفائدة على دائرة النظام الضيقة والحرس الثوري وشبكاته الاقتصادية فقط، وهذا يعني استمرار الاحتقان في إيران من الطبقة الوسطى تجاه النظام.
4 – سوريا لم تكن جزءاً من المفاوضات، ورفض الإيرانيون إدخال الملفات الإقليمية الأخرى في المحادثات، وأشارت الأطراف المتفاوضة إلى إمكانية الانتقال لبحث ملفات أخرى بعد الانتهاء من الملف النووي.
5 – من المستبعد أن يحصل تحوّل كبير في العلاقات الإيرانية-الأمريكية على المدى القصير والمتوسط، فإيران ما زالت نظاماً متطرّفاً توسعياً يناصب الولايات المتحدة العداء منذ حوالي 36 سنة، وأمريكا ما زالت “الشيطان الأكبر” في إيران، والنظام الإيراني مبني على هذه الرؤية للولايات المتحدة والغرب، وتغييره لها يعني انتحاره. ولكن بلا شك هناك احتمال أن يبدأ انزياح في الرأي العام الأمريكي تجاه إيران على حساب دول الخليج العربي. وبالنسبة لدول الخليج، فالتنسيق والعمل على تأسيس منظومة أمن ودفاع مشترك حاجة ملحة اليوم أكثر من أي يوم مضى.
للصفقة آثار عميقة على الشرق الأوسط بشكل خاص، وهي تؤسس لنمط جديد من العلاقات دولياً، كما أنها ليست نهاية التبدلات السياسية في المنطقة، وإنما بداية لمرحلة أخرى، وما يزال هناك الكثير من المتغيرات، وما يقوم به كل طرف في الفترة القادمة لا يقل أهمية عن الصفقة، لأن هذه التحركات ستشارك في رسم معالم المنطقة والصراعات فيها. سيتحرك اللاعبون سعياً وراء مصالحهم ضمن المعطيات الجديدة، وخصوصاً الدول السنية وفي مقدمتها السعودية وتركيا، وستبحث هذه الدول عن قواسم مشتركة فيما بينها لاحتواء التمدد الإيراني. أما فيما يتعلق بسوريا فيتوجب الضغط على الولايات المتحدة لتضغط على النظام الإيراني لاستخدام روافعه ليدفع الأسد لإيقاف استخدام الطيران في ضرب المدن وإلقاء البراميل والعمل على رفع الحصار عن المدنيين، وإذا كانت حجتها سابقاً بأنها لا تريد إفساد المفاوضات، فالمفاوضات انتهت، والمسؤولية السياسية والأخلاقية ترتب على الولايات المتحدة والمجتمع الدولي أن يتحركوا بخصوص الأزمة في سوريا، وإلا فلن تؤدي الصفقة إلا للمزيد من العنف والاقتتال في المنطقة، وارتفاع حدة الصراع الطائفي، والرابح الأكبر سيكون الميليشيات والتنظيمات المتطرفة، وعلى رأسها “داعش”
باحث سوري
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج
Suivre le téléphone
10 فبراير,2024 at 10:06 م
Meilleure application de contrôle parental pour protéger vos enfants – Moniteur secrètement secret GPS, SMS, appels, WhatsApp, Facebook, localisation. Vous pouvez surveiller à distance les activités du téléphone mobile après le téléchargement et installer l’apk sur le téléphone cible.