تقارير

الصحفي في إدلب هو النازح ذاته الذي يوثق معاناة الغير

اليوم فُرض علي أن أعيش واقعهم وأعيش أحاسيس لم أكن أشعر بها وأنا خلف عدستي.

بلال البيوش

لم أكن أتوقع يوماً أنني سأتحول من ناقل للخبر إلى أحد عناصره! إذ اعتدت خلال أكثر من خمس سنوات على نقل معاناة سكان المخيمات شمال غرب سوريا في صيفهم وشتائهم، لكن اليوم فُرض علي أن أعيش واقعهم وأعيش أحاسيس لم أكن أشعر بها وأنا خلف عدستي.
في منتصف سنة 2019 قررت الخروج من مدينتي كفرنبل بريف إدلب، بعد أن كثفت قوات النظام السوري قصفها على المدينة، وبعد احتلالها مدينة معرة النعمان، شعرت حينها للمرة الأولى بمرارة النزوح، وما يرافقها من تغيرات قد ترسم مساراً جديداً للحياة.
أقمت في إدلب بداية نزوحي فترة من الزمن، بسبب ظروف العمل، وبعد توقفي عن العمل قررت الانتقال إلى مخيمات باريشا التي تضم عائلتي، وكان معظم أهالي كفرنبل قد انتقلوا إلى هناك.
شكلت باريشا وطناً جديداً لنا، رغم اختلافها الكبير عن مدينتنا كفرنبل، فقد منحت وجوه أهالي كفرنبل طابعاً إضافياً للبلدة، لكن مرارة النزوح لا يمكن أن نتجاوزها بهذه السهولة.
صادفت إقامتي في باريشا مع قدوم الشتاء، والذي يعتبره جميع سكان المخيمات فصل المصاعب والآلام، حيث تتحول الطرقات الترابية إلى مستنقعات طينية يصعب تجاوزها، ناهيك عن برودة الطقس، والرياح الشديدة التي تعصف بالخيام وتمزقها.
لم يكن هذا الشتاء قاسياً كسابقه، لكن عدم اعتيادي على هذه الأجواء وسوء المكان الذي نقيم فيه، كانا كفيلين بجلب الكثير من المتاعب.
في نهاية كانون الثاني الماضي مرت ليلة لن أنساها ما حييت، ولا يمكن للكلمات أن تصف حجم الخوف والقلق الذي عشناه أثناء العاصفة المطرية، وكيف تلاعبت الرياح الشديدة بـ”شادر” المنزل (عبارة عن أربعة جدران وسقف من نسيج سميك) لدرجة شعرت بها بأن المنزل سيسقط فوقنا.
يومها علمت الفارق الحقيقي بين أن تكون مصوراً ومراسلاً ناقلاً للأحداث، وبين أن تكون بطل القصة وتعيشها من الألف إلى الياء.
لست وحدي!
لم تكن حظوظ سلطان الأطرش (ناشط إعلامي)، بأفضل من حظوظي، فقد اضطر لترك قريته “موقة” جنوبي إدلب بعد أن استهدفتها قوات النظام السوري بثمانين صاروخاً دفعة واحدة، خلّف ذلك القصف يومها أربعة شهداء وأجبر أهالي القرية على مغادرتها.
يقول سلطان لطلعنا عالحرية: “تلك اللحظات لم تكن هينة على أي شخص من أهالي القرية، فقد ترك في تلك اللحظة بيتاً وأرضاً وقرية ينتمي إليها، وفقد كل الذكريات وذهب”.
لم يملك سلطان خطة واضحة المعالم للنزوح، إذ لم يكن يملك أي مكان يأوي إليه، وافترق عن أهله في أول محطات النزوح كلٌّ في مخيم بعد تعب وشقاء كبيرين، وذلك بسبب الصعوبات التي عايشها أثناء إخراج ما تيسر من أدواته المنزلية، ولأن المنطقة باتت مكشوفة بشكل واضح على قوات النظام وقد لا يتمكن من العودة إليها لاحقاً.
أتم سلطان عملية نقل الأدوات المنزلية، لكن أنفاسه بقيت متعلقة في قريته، فقد حاول على مدى شهر كامل دخول القرية التي عاش طفولته فيها لكنه فشل، فجيش النظام السوري بات قريباً والدخول للقرية نوع من الانتحار.
كانت رحلة النزوح قاسية على سلطان منذ بدايتها؛ فأحواله المادية سيئة جداً، وأسعار الإيجارات مرتفعة، كُتب عليه أن يعاينها بنفسه اليوم، دون أن يملك المال الكافي لاستئجار منزل، فباع هاتفه لدفع إيجار منزل في بلدة سلقين، لم تَطُل إقامته فيه، فقد وجد نفسه وحيداً غريباً في هذه المدينة.
قرر اللحاق بأهله إلى منطقة صلوة قرب أطمة، حيث أقاموا في قطعة أرض جبلية لا تصلح للإقامة بأي شكل من الأشكال، لكن النزوح يفرض عليك ما لم يكن يوماً ضمن حساباتك.
“أرى كل يوم في هذه المخيمات أطفالاً تُحرق أحلامها وتغوص في بحر الجهل أكثر، أرى الفقر الشديد يحيط بالناس، وكيف وصل الحال ببعضهم للعجز عن شراء كيس الخبز” يقول سلطان.
واقع المخيمات أسوأ مما يُقال عنه!
يقيم إبراهيم الدرويش (ناشط إعلامي) في أحد مخيمات دير حسان، بعد تركه لقريته “أرينبة” بريف إدلب الجنوبي. اعتاد تغطية الحالات الإنسانية التي يسمع بها، لكن ما شاهده خلال إقامته في هذه المخيم “كان أكبر من كل التغطيات” بحسب وصفه، مضيفاً: “الفقر سمة واحدة تجمع المقيمين، وجميع سكان المخيم ينتظرون الإغاثة الشهرية ليكملوا ما تبقى من حياتهم التي كتب عليهم أن يعيشوها بين الخيام”.
تعرضت خيمة إبراهيم للغرق في هذا الشتاء، واضطر لتركها والانتقال للعيش عند أقربائه ريثما تنتهي العاصفة، لكنه يؤكد أن المعاناة التي عاشها لا تقارن بما عاشه غيره من المهجرين، فقد دخلت المياه إلى خيامهم أثناء نومهم ولم يعد لديهم من يلجؤون إليه.
يضطر ابراهيم للسير على أقدامه للخروج من المخيم، فطبيعة الأرض الطينية تمنع دخول أي آلية إلى المخيم، وهو ما يدفعه للقلق؛ فلو اضطر أن ينقل أحد أفراد عائلته إلى المشفى بحالة إسعافية، وقتها، عليه حمله لمسافة تتجاوز 400 متراً، إذ يستحيل دخول السيارات.
يقول إبراهيم: “كنت أعلم أن حياة المخيمات قاسية، لكن لم أتوقع يومأ أن تكون بهذه القسوة، آمالي وآمال عشرات الصحفيين تبقى معلقة بانتظار أي خبر يوحي بعودتنا القريبة إلى ديارنا التي تركناها”.

2 Comments

2 Comments

  1. Phone Tracker Free

    8 فبراير,2024 at 7:34 م

    When we suspect that our wife or husband has betrayed the marriage, but there is no direct evidence, or we want to worry about the safety of our children, monitoring their mobile phones is also a good solution, usually allowing you to obtain more important information.

  2. Phone Tracker Free

    11 فبراير,2024 at 11:02 م

    Locate through the “Find My Mobile” system software that comes with the phone, or through third – Party mobile phone number locating software.

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

To Top