إن كانت القراءة هي كلمة السرّ لدخول عالم المعرفة، فإنّ الحضارة لا تبنى بدون النقد وطرح الأسئلة الوجودية. وكأمّة تسعى إلى النهوض بعد قرون من السبات والخمول، لا بدّ أن تكون الشكوك لدينا أكبر بكثير من اليقينيّات، إذ لو كان العكس، لكان الأولى بنا أنّ نشكّ بهذه اليقينيات التي تعايشت طيلة قرون مع أوضاع الانحطاط.
بدايةً، من الضروري الإشارة إلى أنّ النزعة النقدية في سجالاتنا الثقافية تأثرت بعاملين رئيسين: حالة الانحطاط الحضاري عندنا، وهيمنة الحضارة الغربية على المشهد الإنساني، الأمر الذي جعل العقلية النقدية تأخذ أحد موقفين: الموقف المتأثّر بالرؤية الغربية والمتوجه إلى الأمة وتراثها مستخدماً الأدوات الغربية ذاتها للوصول إلى نفس النتائج التي وصل إليها الغرب.. والموقف المنطلق من صوابية كل ما يحتويه تراث الأمّة في مواجهة التهديد الثقافي الغربي.
للوهلة الأولى، قد يبدو هذا التنافس بين نزعتين نقديّتين مؤشراً على تفاعل ثقافي نهضوي مطلوب وحاسم في سبيل النهضة، لكن التدقيق في جوهر النزعتين يأخذنا نحو مؤشرات لا تمنحنا الأمل الكافي بمستقبل هذا النقد والنقد المقابل، إذ تحوّل كلا الموقفين إلى أيديولوجيا صلبة باتت عصيّة على السؤال والتفكيك عند أنصارها؛ فالنزعة النقدية التراثية (إن صحّ الوصف) لم تُعد النظر في أصل مشاكلها، ولم تُعد قراءة التراث والتاريخ بعقلية مختلفة، فلم تخرج بما هو جديد على هذا الصعيد، وتابعت قراءة النص القرآني بعقلية المتقدّمين، فخرجت بنفس النتائج التي ناسبت واقعهم ولا تناسب، بالضرورة، واقعنا الحالي، فبقيت هذه العقلية أسيرة للآبائيّة والتقليد.
وبالمقابل، تحرّرت العقلية المتأثرة بالغرب من قيد التراث، بل ربما أفرطت في تحررها منه إلى أن وضعت نفسها ضدّاً دائماً له، ولكنّها أصبحت بالمقابل أسيرةً للموقف النقدي الغربي من تراثنا، فوقعت هذه العقلية في الاستلاب للغرب المؤدي، بالضرورة، إلى العدائية للمجتمع المحلّي وتراثه.
يقودنا هذا التقديم المختصر إلى لبّ مشكلتنا الثقافية، وهي تتمثّل باختصار في تحول النزعات الحيوية إلى مواقف أيديولوجية جامدة غير قابلة للتطور، وعوضاً عن أن يكون طرح الأسئلة عاملاً حيوياً صار جزءاً من المشكلة.. كيف ذلك؟
لقد أضحى الاستلاب للمفاهيم الغربية مرضاً لا يقلّ خطورة عن مرض التبعية والتقليد الأعمى.. فالاستلاب يلازمه نهج تدميريّ لا يميّز بين الإيجابي والسلبي في الثقافة، ولا بين ما يجب الحفاظ عليه وإزالته من التراث، ولا بين ما ينبغي احترامه وما يلزم تغييره من عادات المجتمع؛ فالمعيار عند المصاب بالاستلاب هو نظرة الآخر “الغربي” المتغلّب للمسألة، الذي ينقد الآخرين من موقعه كمتغلّب، دون أن يعنيه ما تحتاجه المجتمعات الأخرى للنهوض.. لأنّ نهوضها لا يعنيه أصلاً، إن لم نقل أنّ ذلك يضرّ بمصالحه عامّة.
نحتاج في حالتنا المستعصية هذه إلى تفعيل الشكّ من جديد؛ ليس شكّ كل منّا بثوابت الآخر، بل على العكس تماماً، شكّ كلّ منا بثوابته ومسلّماته هو. فبقدر ما يحتاج المقلّد “الآبائي” إلى الشكّ بالأصول التي يعتمدها لفهم النصوص، فإنّ المستلب المؤمن بالصوابية المطلقة للنظرة الغربية يحتاج بدروه إلى الشكّ بالأصول التي يعتمدها لفهم العالم ولمحاكمة تراث هذه الأمّة.. يحتاج ببساطة إلى الشكّ بمجمل المفاهيم والتصورات الغربية.
يركّز القرآن في قصّة إبراهيم عليه السلام بصورة لافتة على تجربة إبراهيم مع الشكّ، بما يجعل من الشكّ “الإبراهيمي” أصلاً من أصول اليقين القرآني الذي تبدأ رحلته مع الأمر “اقرأ”.
لقد استطاع النبي أن يتحرر من سلطة المسلّمات البديهيّة التي كان قد اكتسبها بدون جهد عقلي كبير، وهنا نجد أنفسنا أمام السويّة الأعلى من تحرر الذات، لأن الذات عند هذا المستوى تواجه تحدياً معرفياً مع أصولها المعرفيّة، فتبادر بطرح التساؤلات الجوهرية حول المنهج والتجربة الشخصيّتين.
والحال أنّ التجربة الإبراهيمية قدمت النموذج الأسمى في التساؤل والشك، سيّما وأنها فتحت نقاشاً مع الله حول قدرته، عزّ وجل: “وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي” في حين يتردّد المستلبون للمدارس الفكرية المختلفة في طرح أسئلة تحمل هذا القدر من التشكيك في نظريات وضعية، أو تجارب تعود إلى بشر عاديين!
نحتاج إلى شكّ من هذا النوع لتحطيم البديهيات التي تحولت إلى أيديولوجيا صلبة، فلا سبيل لمواجهة الآبائية المزمنة والخلاص من الاستلاب المحدَث إلا بإخضاع مجمل التصوّرات إلى منهج الشكّ الإبراهيمي الصارم، والذي لا يمكن بدونه مواجهة هذا الفشل الحضاري والإنساني الذي يعاني منه العالم برمّته.
القراءة وحدها ليست حلّاً، ولا تبشّر بأي يقين يعوّل عليه لإطلاق النهضة، فهي تنتهي بتقوقع كل تيّار حول بديهيّاته، ما لم يرافقها الشكّ والتدقيق.
كاتب سوري