أسامة نصّار
بين يوم وليلة، تنقلب التوقعات من الأرض إلى السماء، بسقوط نظام الإجرام في سوريا، لم يعد “النموذج السوري” مثالاً يصلح ليستغلّه الطغاة والأشرار للترويع والتهديد بالمصير المشابه للشعب إذا ثار على الطاغية؛ ففي هذه الأيام نلمس الغبطة عند المستضعفين من أمثالنا ومن جيراننا، والذين انقلب تفاؤلهم خيبةً كبيرة -مثلنا- بعد ربيع سريع نسّم على بلادنا وبلادهم. يقول أشقاؤنا المصريون: “يا بخت السوريين.. ربّنا يدينا زيّ ما اداهم”. ونحن لا نملك إلا أن نؤمّن على دعائهم ونستعير لهجتهم المحبّبة: “ربنا يتمّم بخير”.
سيلزم أن نضيف كلمة أو مصطلحاً جديداً للقاموس لتوصيف الحال الذي مرّ بنا بسقوط نظام الإجرام؛ ربما نسمّيه “الشعور السوري”.
أقصى درجة من الفرح مع أقصى درجة من الحزن، الأسى والغضب وشيء من إرواء الغليل، مع الحسرة والإحباط.. الشغف والخوف والدهشة والترقب والتفاؤل والتشاؤم والأمل.. كلها في آنٍ معاً.
ليست تقلبات عاطفية، أو “تعقيد عاطفي” كما أجاب الذكاء الصنعي لما سألته عن اسم كوكتيل المشاعر هذا. والغريب أن كل هذا الدفق الجارف من المشاعر يجتاح بلحظة واحدة مطوّلة كيان كلٍّ منّا ويغمر عقلنا الجمعي معاً، ليسلّمنا إلى نوبات من البكاء، نشوة وألماً!
سننحت الكلمة، وإذا أعيتنا اللغة وعلم الدلالة والمعاني فيكفي أننا قد اختبرنا الشعور الفريد وسجّلناه باسمنا، حتى لو لم نستطع تسميته. وأصلاً من غير المتوقع أن تتكرر اللحظة التاريخية التي غمرنا بها “الشعور السوري” ولكن من المهم أن نحتضن هذه اللّفحة كأيقونة، مثلها مثل صور تحطيم الأصنام وتكسير السجون، لنستخدمها مصدراً ضرورياً للطاقة، سنحتاجه حتماً لمواجهة ما سيأتي.
ليست المرة الأولى التي نساهم فيها بإثراء المعجم. ربما لم تكن معظم المفردات والمصطلحات التي قدمناها إيجابية ومشرّفة، ولكنها اختراعات سورية محضة: شبيح أو تشبيح، تعشيب، تعفيش، منحبكجية، ومؤخراً “مكوع، تكويع”.. وطبعاً كانت كلمة “تنسيقيّة” من أجملها. نحتاج لبحث خاص يجمع هذه المفردات والمنحوتات السوريّة.
= = =
تحدياتنا أكثر من أن نعدّدها. وحلمنا يوازي بسعته تلك التحديات، بل يفوقها. والجميع مدرك بأن فرصنا محدودة بالوصول لبلد يجبر كسرنا ويتسع لنا جميعاً، يتساوى فيه الجميع أمام القانون، نتعايش ونكافح فيه ولأجله معاً بسلام. نحبّه ويحبّنا. يصون كراماتنا ويضمن حرياتنا.
بالتأكيد أننا لن نغير قوانين التاريخ وحتميته، “ولن تجد لسنّة الله تبديلا، ولن تجد لسنّة الله تحويلا”، والأمل بأن تمتدّ هذه الفرادة السورية لنتمكّن من تقديم نموذجنا الخاص والإيجابي بالأشياء.. وأن تُضاف هذه المفاهيم إلى الأدبيات والمناهج الأكاديمية في العلوم، وتغيّر المدونة العالمية للتعافي وإعادة البناء.. كأن ننجح بتطبيق نموذجنا الخاص بالعدالة الانتقالية والمصالحة، ونموذجنا المتعلّق بتحقيق التعافي والنمو، ونموذج آخر لإدارة البلاد وترشيد الموارد. وبالطبع سيلزم كل ذلك ورشات لنحت الاصطلاحات اللغوية المكافئة.. واللزوم الأخير هذا هو آخر همّنا!
= = =
عن الغائبين من أحبابنا، في معتقلات النظام الساقط، نعرف أن الطوابق السرية في سجن صيدنايا هي محض أوهام، ومثلها كذبة الزنازين المحميّة ببوابات رقميّة مشفّرة. نعرف ذلك، ونثق بالمنظمات والروابط التي تخصّصت بدراسة هذه السجون ومراكز الاحتجاز الجهنمية وبوصفها خلال السنين الطويلة السابقة. لكننا أردنا أن نصدّق هذه الخرافات ونتعلّق بالأوهام.. لسنا مثل المنحبكجية والرماديين، (صار اسمهم اليوم “المكوّعين”) الذين يبرّرون خرسهم خلال أعوام الثورة بالخوف من سجن صيدنايا وفروع التعذيب التي لم يكونوا يعرفون بوجودها! “كنّا مخدوعين ونظن أن سجن صيدنايا وأقبية التعذيب هي حبكات مؤامراتية مبالغ فيها من المعارضة.. هي غير موجودة.. لكننا خفنا منها”!
وهمنا ليس مثل وهمهم، وأن نكون اليوم واهمين بما يتعلّق بالكشف عن مصير آلاف من أهلنا المفقودين هذا “الفقد الغامض” أسهل (بل أقل صعوبة) من أن نواجه السؤال الأقسى على الإطلاق: “أين البقية؟” المحررون من سجون ومسالخ النظام البائد، الرجال والنساء والأطفال، كلهم لا يتجاوز عددهم بضع مئات، هو شيء كبير، ونحمد الله على إطلاقهم. لكن ماذا عن عشرات الآلاف الباقين؟ دون أن ننسى غائبين وغائبات في معتقلات فصائل نهجت نهج النظام أثناء قتاله.. أو بحجّة قتاله!
هل هي لحظة الحقيقة؟ اللحظة المؤجلة التي لا نريد لها أن تأتي، ليس فقط لأننا أنانيون ونريد أحبابنا معنا من جديد، أحياءً، بغض النظر عن الظروف الجهنمية للسجون والمعتقلات، نتحاشى لحظة الحقيقة لأن مواجهتها تقتضي أن نستسلم إلى أن جميع أحبابنا الغائبين غائبين إلى الأبد!
هكذا، بلا رفاة ولا متعلّقات أو تواريخ، بلا قصّة وبلا وصيّة، بلا جنازة وحداد وبلا قبر..
جرح مفتوح بلا رتق، لا يقبل الإجابة الباردة عن الآلاف من المغيبين تغييباً غامضاً، ويرفض اختزال الأحبّة الأليم كلهم بنعوة واحدة: “لم يبق بقية!”
“أضم في القلب أحبائي أنا
والقلب أطلالُ
أخدعُني..
أقول: لا زالوا
رجع الصدى يصفعني..
يقول: لا.. زالوا!”
أحمد مطر
ناشط وصحافي، رئيس تحرير مجلة طلعنا عالحرية، ومدير مكتبها في دوما / الغوطة الشرقية سابقاً، إجازة في الآداب من جامعة دمشق قسم اللغة الإنكليزية، مدير مكتب الحراك السلمي السوري في ريف دمشق.