باتت الأحلام البسيطة العادية والمألوفة في كل العصور وكل المجتمعات، باتت ضرباً من المستحيل؟
حلم الارتباط بالطرف الذي يحبه، حلم بناء الأسرة، حلم إيجاد عمل يثبت من خلاله استقلاليته وقدرته على أن يصبح مسؤولاً ويمضي في مستقبل يليق به.. كلها باتت مستحيلة!
نعم هذا مصير شباب وشابات سوريا ومن بقي منهم في هذه المحرقة السورية المستمرة بأكثر من طريقة لليوم. فمن محارق الحصار والقتل الجماعي، التهجير الجماعي، إلى المفقودين والمغيبين، وصولاً اليوم لوأد قدراتهم أمام أعينهم، في جريمة وطن شاملة.
بعد النصر العسكري المزمع على الشعب السوري، استباحت العصابات المغذاة بكل أساليب الاحتيال والجريمة، بتكاليف أمنية سرية وعلنية، عملت بكل صنوف الجريمة في الظل في الأعوام السابقة، ولكنها أفصحت عن نفسها بمسميات عدة في السنتين الأخيرتين بعد توقف معظم العمليات العسكرية على غالبية الجغرافية السورية. أبرز أعمالها الخطف والسطو، والاتجار بالمخدرات، وجرائم القتل الفردية، وابتزاز الناس في أموالهم وأرزاقهم بخطف أبنائهم.
بتنا نشهد يومياً جيلاً من الشباب منفلتاً من أي قيمة، لا يردعه شيء عن ارتكاب أي فعل من الأفعال الموصوفة بالجريمة المنظمة. وبتنا نشهد اغتيال أقرانهم من الشباب السوري بطرق متعددة، منها السري والغامض، ومنها ما يكشف عنه علناً، كما حوادث مقتل مجموعة من الشباب السوري في محافظة السويداء المتتالية، وآخرها مقتل الشاب يوسف مثقال نوفل. ويوسف شاب في مقتبل العمر، قليل الخبرة في الحياة، يعتقد أن أحلامه وقدراته أكبر من واقع تملؤه الجريمة والنفوس الأمارة بالسوء، والعقول التي أكلتها المخدرات وكل صنوف الحشيش، ليقضي على يدي عصابة تافهة استسهلت الجريمة والسرقة، ووجدت الواقع حولها لا رادع فيه. قُتِل يوسف بدم بارد مقابل سيارة والطمع في ثمنها!
بين واقع موبوء بكل ما سبق وأحلام جيل عريض من الشباب، تبدأ قصة جديدة للسوريين، بل قصص وروايات لا تنتهي، ولن تنتهي ما دام الساهرون على خراب البلد ودماره هم مسيرو دفته السياسية والأمنية والمالية، ما دام القانون معطلاً إلا لخدمة أولئك دون غيرهم.
في حادثة اغتيال يوسف تداعت العديد من الفعاليات المجتمعية والأهلية للمطالبة بشنق القاتل ومن معه مباشرة، كفعل رادع لغيره عن استسهال ارتكاب الجريمة. أمام القصر العدلي حضر الكثير من أهالي الضحايا السابقين، حضر الشباب المهددون اليوم أو غداً بذات الفعل، حضرت مطالب القصاص العادل، ولم تحضر العدالة وغيّب القانون، وتبخرت الأحلام. ولا زال مصير القاتل لليوم رهن التحقيق غير المضمون نتائجه. إذ قبل عامين من اليوم، تم الإفراج عن أحد مرتكبي الجرائم ذاتها بعفو عام بعد ثلاث سنوات من حكمه، وحينما اعترضه أحد أخوة القتيل، كرر جريمته بقتل الأخ أيضاً، ولليوم هو طليق وعلى مرمى من الناس! وكأن العفو الرئاسي أتاح له قتلَ نفس أخرى بلا رادع أو محاسبة، فيما لا زال الآلاف من السوريين يقبعون في المعتقلات، ومثلهم الآلاف مهددون بالاعتقال، ومن كافة الأفرع الأمنية، لكتابتهم رأي مخالف، أو مشاركتهم في اعتصام أو مظاهرة سلمية، أو لقولهم الحق في زمن الانهيار واغتيال وطن عن عمد.
لا يكفي أن يحلم الشاب بأن يصبح مهندساً أو طبيباً أو كاتباً، عليه أن يعمل ليصل. هكذا تفترض القيم وتعتمد أسس التربية، وهذا لا يعني مطلقاً أن ثمة مفاضلة بين الحلم والواقع على مبدأ أيهما أفضل: أن أحلم أو أن أعمل! بل كلاهما مكمل لبعض في صيغة الإنسان. فالإنسان ليس مجرد أحلام وأماني تماثلها بحدها الأعلى الميتافيزيقا، ولا هو آلة للعمل مقيدة الشروط والحدود والقدرة الإنتاجية. وما انفصال هاتين الموضوعتين عن بعضهما سوى حالة استلابية؛ سواء للوهم والخيال والإحباط أو للعمل المادي الشيئي، وكلا الحالتين متماثلتين كيفياً مع اختلاف نتائجهما. وهذا ربما يكون مدخلاً عاماً لدراسة حالات الانفصال عن الواقع التي يعيشها السوريون اليوم، والتي تنتج كل صنوف الاستلاب المعاشة، سواء كانوا الشباب النقي الباحث عن تحقيق ولو الحد اليسير منها، مثل يوسف الذي أتم خطبته قبل شهر من اغتياله، ويتابع دراسته ليكون شخصاً مستقلاً يفخر بذاته ويحقق لوالديه الطيبين الشعور بالأمان عنه وعن مستقبله.
فيما أولئك مرتكبو الجريمة ومستسهلوها، ليسوا سوى أدوات لمشغليهم الأعلى منهم سلطة، ونماذج مستلبة لرغبة الاغتناء الفجائي الساحر، سواء كانت قتلاً أو سرقة أو تجارة مخدرات..
محرك الحدث السوري واحد وإن اختلفت أدواته. الفلتان الأمني، فوضى السلاح، تعطيل القانون، وتجييره والدستور معه لمصلحة القلة القليلة من المتنفذين في حكم البلاد، وقد حولوها لمجرمين وضحايا، لعصابات وميليشيات!
لم يخطئ ابن خلدون يوماً حين ردد قبل سبعة قرون من اليوم: “عندما تنهار الدول يسود الرعب ويلوذ الناس بالطوائف.. وتظهر العجائب وتعم الإشاعة.. ويتحول الصديق إلى عدو والعدو إلى صديق.. ويعلو صوت الباطل.. ويخفت صوت الحق.. وتظهر على السطح وجوه مريبة.. وتختفي وجوه مؤنسة.. وتشحّ الأحلام ويموت الأمل.. وتزداد غربة العاقل وتضيع ملامح الوجوه”، ويا لهول غربتنا.. ويا قهر أحلام شبابنا!