افتتاحية العدد بقلم عاطف عامر
هناك قوانين تسري على المجتمعات دون تدخل الإرادات الذاتية لأفرادها، قوانين تعلو فوق مشيئتهم؛ فلا التمرد قرار ولا الانتفاضة اتفاق، هي لحظة يُوجبها هذا القانون الأعلى. ودور الإرادة الفردية هو إما أن تكون مع هذه اللحظة، لحظة التغيير، أو تحاول عرقلته. ينقسم الناس بأدوارهم بين هاتين الخانتين..
غالبية المجتمع المحلي في السويداء اختارت في الأيام السابقة قرارها بتنظيف المحافظة من عصابات استباحت كل القيم الاجتماعية الموروثة في المحافظة؛ قيم تقديس الضيف، قيم الكرم وإغاثة الملهوف ورفع الظلم، وكونها قيم موروثة هي دائماً بحاجة لإعادة توطين، لإعادة توكيد.. تلك العصابات كانت على الضدّ من ذاك التوكيد، بل على العكس هي بدأت بتشريع قانونها؛ وقانونها هو الجريمة، وكل جرم يمرّ بدون عقاب أو حساب يتحول لشريعة في المجتمع، وهذا ما حدث؛ صار الخطف والسلب والقتل هي يوميات عشناها لسنوات خلت..
في الأيام السابقة اتخذت غالبية المجتمع المحلي، بعد تراكم هائل من الضيق والصبر على الاستهزاء بكرامات الناس وحياتها وأرزاقها، اتخذت قرارها بتوكيد قيمه الموروثة وإعادة إنتاجها بكنس هذه العصابات بالقوة. الصدام المسلح الذي حُسمت نتائجه في يوم واحد! فقط يوم واحد، كانت الناس فيه سيلاً جارفاً في الذهاب للمواجهة، وهناك منهم من ذهب دون سلاح. نبع السيل أن القيمة الموروثة العليا هي كرامة الناس.. الكرامة التي اشتاقت للتوكيد، لإعادة التوطين، ولأن تكون هي البوصلة.
قانون التجمعات البشرية، أنه عند غياب القانون وغياب الدولة ككائن ينظم العلاقة بين الناس، تنوس العلاقة بين الناس، في أن تكون علاقة استغلال وظلم، وأن يكون الإنسان ذئباً لأخيه الإنسان. أو أن تكون علاقة ناظمها عقد اجتماعي بين الناس، يرى في العدالة أساساً وقطباً جاذباً.
ينوس التجمع البشري بين هاتين العلاقتين، ويرسم تاريخه، ويُدرك أن تحقيق العقد الاجتماعي هو جهد ونضال وعمل شاق؛ جهد هو يقين وإيمان أن التاريخ هو ليس إلا إنجاب إرادة العدالة.. إرادة العدالة التي تتجسد فيما بعد بمؤسسات قضاء ومحاكم وشرطة مدنية وقوانين وتوابع كثيرة.
السويداء التي قضت على العصابات وإرادة الجريمة لن تنجو إلا إذا أكملت المشوار باتجاه استعادة جسد إرادة العدالة، والذي هو القضاء النزيه العادل الصارم، الناس أمامه سواسية، وتحرير القضاء والنيابة العامة من تغوُّل الأجهزة الأمنية؛ تحريره أي استقلاله وسيادته؛ أن يكون للقضاء السيادة على كل مسؤول في الدولة وكل خارج عن القانون.
لا مستقبل لأي تجمع بشري الكبير فيه يأكل حقوق الصغير، المستقبل المفتوح والفاتح ذراعيه هو لعلاقة سوية بين البشر، هذه العلاقة وسيطها هو محكمة ترتكز على ثلاثة أعمدة (قاضٍ، محامي دفاع، نائب ممثل للحق العام) ولكلمة “عام” هنا جذر معرفي يصل لقرون. كلمة “عام” تعني أن كل اعتداء على أي فرد هو اعتداء على المجتمع بكامله. الثلاثة أعمدة يتجادلون على أرضية الكتب والدساتير والقوانين التي درسوها. جدالاً بين ثلاثة هم خريجين جامعيين أكفاء.. جدالاً لإحقاق الحق ونصرة المظلوم، ولإعادة توكيد الموروث، لكن بوسائل صحيحة..
هو الطريق الأوحد والشاق لمستقبل ممكن، هو الطريق لجعل الحياة ممكنة، هو الطريق لتحويل هذه الجماعة البشرية في الجنوب السوري إلى مجتمع. فالمجتمع ليس مجموعة من الأفراد كما هي مناهج البعث، المجتمع هو كينونة عظيمة يتم إنتاجها بتصحيح العلاقة بين الأفراد من علاقة “ذئبية” إلى علاقة محبّة وتشارك وتكامل، والتشارك يكون بين أفراد متساوين بالحقوق، ومختلفين بتنوعهم وآرائهم وتوجهاتهم..
في المساواة الحقوقية تنتفي الحرب، ويصبح السلاح لا معنى له..
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج