أردناها حرية وسلاماً وعدالة، فيما أرادتها آلة القتل وسلطات الأمر الواقع حرباً مفتوحة، أدركنا من بدايتها أنها تنذر شراً قد يغدو عالمياً.
السلام الذي أردناه ونريده هو غاية السعادة البشرية، هو القدرة على التعايش مع المختلف معك سياسياً وديناً ولوناً ومصلحة. السلام كغاية بشرية وموضوعة حياة يومية، هو مسعى الشعوب للاستقرار والاستمرار. السلام نقيض الحرب والقتل والدمار، وليس هذا فقط، بل نقيض النفس الأمارة بالسوء، بنزعتي الكراهية والعداء. السلام كحالة سياسية تبعث على الطمأنينة في دول الجوار والمحيط العربي والإقليمي والعالمي. هو غاية ووسيلة بآن لتحقيق الذات البشرية وكرامتها في دولة وأرض ووطن، وكل ما جرى لليوم من حرب على الشعب والمدنيين العزل يقوض هذا السلام ويجعله بعيد المنال ..
خياراتنا، خيارات السوريين كانت ولازالت واضحة: السلام والعدالة والحرية، حتى وأن أرادها أصحاب سلطات الأمر الواقع والميليشيات التي تفرخت بسوريا من كل صنوف آلات القتل الجزافي والتي استقدمت خلفها شتى أنواع الاحتلالات العسكرية، بقيت وستبقى هي خيارات الشعب المستضعف والمظلوم لعقود، ولربما لدهور، سياسياً ودينياً ومجتمعياً. خيارات الدولة الوطنية، دولة القانون والمؤسسات، لا خيارات الارتزاق والإرتهان للمنظومات الأمنية والميليشوية وأصحاب النفوذ وأباطرة المال والاحتكار، وبرسم القانون الذي يشرعه جوقة من المصفقين “المهللين”، “المطبلين” فيما يسمى بمجلس الشعب.
لا يتحقق السلام بفرض القوة والسطوة، بل بالقانون الوضعي؛ القانون كتجسيد موضوعي للعقد الاجتماعي بين البشر المختلفين في الأهواء والأذواق والرغبات والمصالح، وحتى بالأطماع والأديان والعقائد. القانون المصان قضائياً ودستورياً والذي ينص صراحة على تحقيق العدالة والمساواة بين البشر في الحقوق والواجبات، وكل خرق لهذه المساواة يستوجب إقامة العدل صوناً للسلام أولاً وللعقد الاجتماعي ثانياً.. وهذا لا يمكن أن يحدث إلا بالإرادات الحرة، بذوات الأفراد المتحررة من نير الاستبداد وقد امتلكت ذواتها، كمواطنين لا كرعايا وخرفان للذبح، وأيضاً امتلكت القدرة على التعبير عن رأيها، عن ذوقها، عن فكرها، عن توجهاتها وطموحاتها، لا عن انتمائها المهين والمذل لحزب أوحد، أو لمجموعة أحزاب ترعى في فلكه تسمى جبهة وطنية.
الحرية حرية الجميع أفراداً ومؤسسات، رجال ونساء، هي حق الله وقد أودعه أمانة بين بني البشر لأنهم يعقلون، ويفكرون، لإنهم بلا السلام والعدالة والحرية يعودون لشريعة الغاب ولغة القتل والبطش وحكم الأقوى وفلتان المرعى والمأكل والمشرب..
يقول قائل: وأي سلام وعدالة وحرية تريدون وقد استجلبتم الأجنبي لقصف سوريا؟ ويبدو أنه يخطئ لا في المعنى، بل في تزوير وتحريف التاريخ، فمن استقدم الأجنبي؟ ويبدو أن السلام والعدالة والحرية نذرٌ على أصحاب النفوذ وذوي القامات الرفيعة من المتملكين وأصحاب النزعة المخملية في الحياة، وربما يقصد أن سوريا ليست سوى مزرعة لتدجين البشر وزراعة الحشيش وتهريب المخدرات والاتجار بالأعراض والأعضاء البشرية، وما الشعب سوى حقل تجاربها الأوسع لكل صنوف القتل والدمار والاستعباد…
سوريا ليست جهة سياسية أو طائفية ولا مدينة دون أخرى. سوريا كل المدن السورية؛ كل أطفالها، كل نسائها، كل حاراتها.. سوريا الوطن المسلوب والدولة المهدورة، سوريا التي لم تبقَ قوة عالمية كبيرة أو صغيرة إلا وأعلنت التدخل بها، فقط لأنها تقوم على نظم العسكر والقبضة الأمنية وسطوة الديكتاتورية البعثية العسكرتارية، تلك التي لم ترَ في مظاهرات ومطالب الشعب بالسلام والعدالة والحرية سوى اغتصاباً لسلطاتها ونفوذها، لهيلمانها وسطوتها.
فإن كان الخطأ الذي ارتكبته هذه المنظومة في قتل واعتقال المدنيين وترويج حرب الإرهاب المزعومة، والعمل على إذكاء النعرات الطائفية، وإطلاق يد المجرمين والشبيحة في أرزاق الناس وحياتهم، ومن ثم تهجير سكان المدن المنتفضة هو الخطأ القاتل الأكبر. فالخطأ الماكر الآخر هو في حالة الجمود السياسي والإفقار المتتالي والإجحاف بتهجير من تبقى من الشباب السوري الذي سيصنع السلام أو العدالة. فكل انتصارات العسكر تصنع كل أشكال الطاعة والرعب والخوف، ولكنها أبداً لا تصنع السلام ولا العدالة ولا حتى المصالحة الوطنية، وهذه طامة كبرى في عقلية من يروجون للسلام كشروط إذعان وامتهان. بينما المسألة السورية لليوم بحد ذاتها عقدة دولية لا يمكن حلها بلا تجاوز مولدات أسبابها، وهي عقلية ووهم القوة والمطبلين لها.
اليوم من سوريا إلى أوكرانيا، في قلب أوروبا، تدور رحى الحرب وغطرسة القوة الروسبوتينية تقرع طبول الحرب العالمية الثالثة المدمرة. فمنذ كُشف لها درب قتل أبناء الشعب السوري وتهجير البقية منه، على مرئً من أمم الأرض قاطبة ومجالس أممها ومنابر حقوق الإنسان والأمم، تم تقويض السلام من المنطقة وها هو يمتد إلى ما لا تحمد عقباه عالمياً.
السلام والعدالة والحرية لا تقتلع من نفوس البشر بالحرب والقتل. والنزعة العنصرية والأيديولوجيات القومية المتعصبة ليست نصيرة التاريخ، فقبل الروسبوتينية كانت النازية وذهبت، وكان عصر الامبراطوريات وولت.
أما أن يكون مبرر القتل والدمار العودة للمربع العالمي كقطب ثانٍ فهذا أبداً لن يأتي إلا باحترام هذا الثالوث.
وعلى العالم أن يتذكر: لم نكن كسوريين نريدها حرباً ولا تدخلات عسكرية قاتلة؛ لا روسية ولا أمريكية، فقط أردناها انتصاراً للمظالم المسحوقة، لشعب أراد الحياة. فهل من أذن تسمع قبل أن تبكي البقية منا، وربما كل أمهات الكرة الأرضية قاطبة إذا ما تمددت الحرب الروسية خارج أوكرانيا، كما تمددت قبلها خارج سوريا؟