ما من شكٍّ عندي أنَّ العلاقة بينَ الرَّجُل والمرأة في مجتمعنا العربيّ المُعاصِر (حبّاً أو جنساً أو صداقةً)، هيَ علاقة مأزومة؛ وكلامي هُنا ليسَ تعميميّاً، بقدر ما هو قائِم على منحىً ما من مُلامَسة القيَم المُهيمِنة على الأفراد والمجتمع، وهذا لا ينفي وجود تجارب جميلة وناجحة، نسبيّاً، في هذا المضمار.
لكنَّ هذهِ العلاقة، على نحوٍ عامّ، محكومة بجُملة مُحدِّدات تنهضُ على اهتزاز الثِّقة المُتبادَل بينَ الطَّرفين، إنْ لم أقلْ: إنَّها تنهضُ على فُقدان الثِّقة بالكامل!
لعلَّ أيّ تفكيك لإشكاليّة (فقدان الثِّقة) بينَ الرَّجُل والمرأة، ولإخفاق التَّواصُل البنّاء والجميل بينهُما، ينبغي أنْ ينطلقَ أوَّلاً من السُّؤال الآتي: كيفَ يتمّ تأسيس العلاقات بينَ الطَّرفين؟ فالخلل الماثل للعيان، أو على الأقلّ، إنَّ هذا الخلل المُفترَض، يكمنُ في عدم بناء العلاقة بينهُما على أسُس أصيلة، كما أعتقد.
ولا يعني القولُ بضرورة بناء العلاقة على (أسُس/ أساسات) أصيلة أنَّنا نضعُ منظومة قيَم معياريّة مُحدَّدة، أو نُؤطِّرُ العلاقة بقواعد أخلاقيّة ثابتة وساكنة ومُتعالية، أو نقولُ بمرجعيّات مُسَبقة ومُعيَّنة. فالعلاقة بينَ الرَّجُل والمرأة محكومة، حتماً، باختلاف الخيارات الفرديّة، من جانبٍ أوَّل، وباختلاف الخلفيّات الاجتماعيّة والثَّقافيّة والاقتصاديّة، من جانبٍ ثانٍ. لكنْ -وبوجود هذهِ الخلفيّات واختلافِها ونسبيتِها- يجب أنْ تكونَ العلاقةُ الغنيّة، على الأقلّ نظَريّاً -ومهما كانت سطوة تلكَ الخلفيّات والمرجعيّات- شبيهةً بتدفُّق الحياة، ومفتوحةً على الحُرِّيّة والتَّجربة والمجهول.
غيرَ أنَّهُ لابُدَّ هُنا من تأصيل المسألة والتَّساؤل: هل يُمكنُ تأسيس علاقة ماتعة وثرَّة وجميلة في ظلّ مُناخ سياسيّ واجتماعيّ واقتصاديّ وثقافيّ تنميطيّ وتأطيريّ مأزوم ومُتعفِّن وقائِم على مُصادَرة الخُصوصيّة والفرديّة والجَمال؟
أزعمُ أنَّ إشكاليّة العلاقة بينَ الرَّجُل والمرأة هيَ، في مُستوىً عميق منها، إشكاليّة مجتمع وثقافة وتربيّة، وهذا ليسَ اكتشافاً؛ فلا تحرُّر للحُبّ والجنس والصَّداقة بينَ الجنسين من دون تحرُّر سياسيّ واجتماعيّ شامل، إلّا أنَّ الهدف المرجوّ، على الأقلّ في هذا النَّصّ، يكمنُ في مُحاوَلة تقديم وصف أوَّليّ للمسكوت عنه في هذهِ المسألة، واستنطاق الأبعاد الفرديّة للعلاقات، وطرائق انبساطها وتعيُّنها الوجوديّ، من حيث المبدأ.
إنَّ أوَّل خُطوة لتحرير العلاقة بينَ الرَّجل والمرأة من القيود القاتِلة، في اعتقادي، تكمنُ فيما أدعوه (الاشتغال على الذّات الفرديّة)؛ فكيفَ لذاتٍ إنسانيّة (رجُل أو امرأة) أنْ تستطيعَ التَّواصُل والتَّفاعُل والأخذ والعطاء مع (شريك/ شريكة) لها، وهيَ ذات فقيرة غير مُمتلئة بنفسِها وبوعيها وبوجودها؟
فالكارثة المُتكرِّرة في مُجتمعنا تكمنُ في لُجوء الرَّجُل والمرأة إلى بعضهِما لتعويض النَّقص؛ أي بدافع وهم تحقيق التَّوازن الشَّخصيّ والحياتيّ بوجود الآخَر المُكمِّل (خُرافة النِّصف الثّاني في دلالتِها التَّداوليّة الشّائِعة)، وهذا لعمري أسوأ ما يحكمُ على العلاقات بالإخفاق؛ إذ لا نصف ثانٍ للفرد الحُرّ المُستقلّ بهذا المعنى المُستهلَك أوَّلاً، وثانياً، ينبغي أنْ تتأسَّس أيَّ علاقة على فعاليّة التَّشارُكيّة والتَّفاعُل، لا على وهم الاندماج والتَّماهي، وثالثاً، كيفَ لذاتٍ مُغترِبة عن نفسِها أنْ تُغنِي وتغتني بآخَر مُغترِب عن نفسِهِ أيضاً؟
إنَّ عدم اشتغال الذّات الفرديّة على نفسِها وثقافتِها وتوازنها الكيانيّ يعني، بمعنىً ما، ليسَ فقط السُّقوط في الاغتراب الشَّخصيّ؛ إنَّما الإذعان للاغتراب الجمعيّ (السِّياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ)، وخطرُ هذا الاغتراب ينطوي، على نحوٍ رئيس، في ارتداء الذّات (الرَّجُل أو المرأة/ سواء أكانت العلاقة علاقة حُبّ أو جنس أو صداقة) قناعَ التَّكاذُب والتَّناقُض والازدواجيّة، ورُبَّما كانَ هذا القناع هو أُسّ أزمة فُقدان الثِّقة، والإخفاق في علاقات الطَّرفين في مجتمعنا.
وهكذا، تتسلَّلُ ألاعيبُ التَّكاذُب إلى أساسات بناء العلاقة، وما يُبنَى على باطل سيكونُ مصيرُهُ السُّقوط عاجلاً أم آجِلاً، ولا سيما في ضوء غياب الصَّراحة والجُرأة والوضوح في طرح كُلّ طرف لما يُريدُهُ من الآخَر (حُبّاً أو جنساً أو صداقةً)، وهذا ما أدعوه بمفهوم (الاعتراف أمامَ الآخَر)، والذي يكتملُ نُضجاً وبنياناً عبرَ مفهوم (الاعتراف بالآخَر).
يقودُنا مفهوم (الاعتراف بالآخَر) مُباشَرَةً، إلى نقد البِنية المركزيّة البطريركيّة الذّكوريّة في مُجتمعنا، فالرَّجُل ما زالَ محكوماً، إلى حدٍّ كبير، بازدواجيّة العلاقة مع المرأة: من جانبٍ أوَّل، هوَ يُريدُ التَّواصُل معها (حُبّاً أو جنساً أو صداقةً)، ومن جانبٍ ثانٍ، هوَ يعجزُ عن مُفارَقة نظرتِهِ الشُّعوريّة واللّاشعوريّة (الدّونيّة) إليها، وأنَّها مجرَّد (آلة صمّاء) مخلوقة سواء لمنح الحُبّ أو لمنح الجنس أو لكليهِما معاً، لا بوصفِها إنساناً كاملاً، وندّاً مُكافئاً، وشريكاً حقيقيّاً في التَّفاعُل والأخذ والعطاء، في الوقت نفسه.
لعلَّ أزمة عدم الاعتراف بـِ (الآخَر/ الأنثى الإنسان) من جهة الرَّجُل، هيَ أزمةُ ازدواجيَّةٍ أخلاقيّة، ونتيجةُ صراعٍ مريرٍ ومُستمرّ داخل وعيهِ وفكرهِ بينَ الموروث المُتخلِّف الذي يشدُّهُ، دائماً، إلى الوراء، والحياة الجميلة والمُغرية والعصريّة التي تُنادي قلبَهُ وجسدَهُ وكينونتَهُ.
وبهذا المنحى نلاحظُ كيفَ تتعمَّمُ مفاهيم مُعيقة أو مُحطِّمة للعلاقات في مُجتمعنا، وهيَ مفاهيم مُتَّصلة، على نحوٍ مُباشَر، بمنظومة القيَم الأخلاقيّة السّائدة (وفي مُقدِّمتها مفهوم الشَّرف وتابعيّة المرأة للرَّجُل)، والقائِمة على الفُصام والازدواجيّة والموقف الدُّونيّ تجاه المرأة مثل شُيوع فكرة أنَّ: (الرَّجُل هو المُفترِس الذي “يأخذُ/ يربحُ” من المرأة)، وفكرة أنَّ: (المرأة هيَ الفريسة التي “يُؤخَذُ منها”/ تخسرُ إزاءَ الرَّجُل)، (ووو…إلخ).
وتتشابكُ هذهِ القيَم المأزومة مع حالة التَّكاذُب وادّعاء التَّحرُّر التي يُمارِسُها الرَّجُل تحتَ باب عدم (الاعتراف أمامَ الآخَر)، مثل تقديم الذّات نفسَها لـِ (الآخَر/ المرأة) عبرَ (أقنعة لفظيّة) مُفرَّغة من مضامينها، ولا تقولُ غايتَها الصَّريحة، كالعبارتين المُستهلَكتين والمُتهافتَتين الآتيتين: (أنا رجُل مُتحرِّر) (أنا رجُل غير سعيد مع زوجتي)، وهيَ، بالتَّأكيد، مقولات/ مُمارَسات، فضلاً عن سطحيتِها وسذاجتِها، تُزيِّفُ الوعي، وتُسمِّم الوجود، وتُصادِر جماليّات علاقات الحُبّ والجنس والصَّداقة بينَ الطَّرفين، إلى أقصى الحُدود.
في مُقابِل ذلكَ، وكردّة فعل أنثويّة، ظهرَتْ منظومة أفكار وقيَم اغترابيّة عند نساءٍ كثيرات، وهذا ما يتجلَّى بدخولهنَّ، أيضاً، في دائرة فقدان المُصارَحة أوَّلاً؛ أي الابتعاد عن مفهوم (الاعتراف أمامَ الآخَر)، وفي بنائهنَّ العلاقة مع الرَّجُل، ثانياً، على غايات نفعيّة ومصلحيّة وتبادُليّة، وعلى مُقايَضات تمحو جماليّات الحُبّ والجنس والصَّداقة، وتبدو في مُحصِّلتِها، استسلاماً وتعميقاً ومُجاراةً للنَّظرة الذُّكوريّة الفحوليّة الدّونيّة تجاه المرأة، ونمطاً من تسليع الحُبّ أو الجنس أو الصَّداقة، وتسويغ ذلكَ تحتَ عنوان: (يحقُّ لي اقتناصَهُ مثلما يقتنصُني هوَ).
ويبدو لي أنَّ أزمة عدم (الاعتراف أمامَ الآخَر)، بما هيَ أزمة فقدان ثقة بالذّات وبالآخَر، في آنٍ معاً، وبما هيَ، أيضاً، ذات أُسُس وخلفيّات سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة وثقافيّة، قد دفعَتْ نسوةً كثيرات ممَّن ساروا في ركاب التَّيّارات النَّسويّة المُعاصِرة (وأنا في هذا السِّياق لا أُعمِّم بالتَّأكيد، لكنَّني أُحاوِلُ أنْ أرصدَ بعض النَّماذج المُتعيِّنة في الواقع، وضمنَ رؤية تتوخَّى النِّسبيّة) إلى مُواجَهة تطرُّف الذّكور بتطرُّف مُقابِل يقومُ، أيضاً، على أنماطٍ سُلوكيّة وخطابيّة تنطوي على عدم (الاعتراف بالآخَر)، وهُنا تظهرُ مُبالَغاتٌ مُتعجِّلة، في أحيانٍ كثيرة، ترمي الرَّجُلَ، تلقائيّاً، في قفص الاتِّهام، وتُلغي الفرديّة والاختلاف والخُصوصيّة بينَ الذُّكور، كأنْ تتمَّ مُحاكمتُهُم، آليّاً، تحتَ دعاوى (التَّحرُّش) أو (تبخيس إنسانيّة المرأة)، والإشكاليّة هُنا ليستْ، في بداهة التَّجريم الجذريّ للتَّحرُّش، أو في ضرورة الإدانة الحاسِمة للانتقاص من إنسانيّة المرأة؛ إنَّما في تعقيدات التَّساؤل المُركَّب والمُتراكب عن كيفيّة إيجاد المعايير الصِّحِّيّة والصَّحيحة للتَّمييز بينَ التَّحرُّش، ومُحاوَلات التَّواصُل الطَّبيعيّة، أو إبداء الاهتمام، أو الإعجاب، أو التَّعبير عن الرَّغبة/ الشَّهوة، من قبَل الرَّجُل تجاه المرأة.
إذاً؛ ثمَّةَ اختلال في مُعادَلة (الشَّراكة والنِّدِّيّة) بينَ الرَّجُل والمرأة، وهوَ اختلال كامنٌ في مُسَبَّقات الوعي الحاكِمة، إلى حدٍّ بعيد، وفي الكيفيّات المُرتبِكة لانفتاح التَّجارب، وفي الفقر إلى خِبرة الارتماء الحُرّ في مُنعرجات الوجود.
ولعلَّ إحدى أهمّ المُضمَرات غير المُفكَّر فيها، في هذهِ الإشكاليّة، فضلاً عن كونِها أزمة فكر وهُوِيّة، هيَ، أنَّها في عُمقِها، إشكاليّة تنطوي على سيادة ثقافة الثُّنائيّات المركزيّة التَّقابُليّة، وما تنهضُ عليه من إحالات دلاليّة تفاصُليّة جامِدة لمفاهيمَ ينبغي إعادة النَّظَر فيها جذريّاً، كإحالات المفهومين الشّائعين الآتيين:
1 – نحنُ نحتفي بالرُّجولة لا بالذُّكورة: “الرَّجُل غير الذَّكر”/ وهوَ ما يدلُّ على الاحتفاء بالأخلاق حسبَ مفهومِها السّائد جمعيّاً لا بالشَّهوة = الانحلال.
2 – نحنُ نحتفي بجَمال الأنوثة لا بجَمال الجسَد: “الأنثى غير المرأة”/ وهوَ ما يدلُّ على الاحتفاء بالأخلاق حسبَ مفهومِها السّائد جمعيّاً، أيضاً، لا بالشَّهوة = الانحلال.
وهذهِ الرُّؤية الثُّنائيّة التَّفاصُليّة هيَ ليسَتْ، في نهائيتِها وتعاليها، سوى رؤية (تأثيميّة) للحُبّ أو للجنس أو لكليهما معاً، وهيَ أيضاً ذات بُعد طُهرانيّ وهميّ ومُنقطِع عن الواقع وكيفيّات التَّواصُل وطبيعة البشر، ولهذا الأمر بالتَّأكيد مرجعيّات اجتماعيّة وثقافيّة راسخة قد يأتي في مُقدِّمتِها النَّسقُ المعرفيّ القائِم على الثُّنائيّة الحدِّيّة التي تفصل الجسد عن الرُّوح.
وأخيراً، يبدو أنَّهُ لابُدَّ في إطار السَّعي إلى (التَّثوير) الثَّقافيّ والتَّغيير الاجتماعيّ/ السِّياسيّ، من إعادة تعريف مفاهيم كثيرة تمَّ حبسُها في إطار تفسيرٍ أُحاديٍّ مُسَبَّق ويقينيّ وضيِّق كمفهوم الوفاء، ومفهوم الخيانة، ومفهوم أبديّة العلاقة، ومفهوم قدسيتِها المُطلَقة، وغير ذلكَ من الرُّؤى والمُمارَسات المُعمَّمة بوصفِها مُسلَّمات حاسِمة، ينبغي تحريرُها عبرَ ديناميّة الفعل والتَّفاعُل وإعادة تشييد فجوات الوجود ووعيه الفرديّ والجمعيّ.
وهيَ الأمور التي ينبغي أنْ تتعيَّنَ في مُنبسَط الكينونة في ضوء فهم أيّ تواصُل بينَ الرَّجُل والمرأة بوصفهِ ابناً شرعيّاً لسُيولة الحياة، وللتَّغيُّرات الطَّبيعيّة فيها، وللانفتاح على المُحتمَل والمجهول ومُراكَمة الخبرات الإنسانيّة، بدلاً من الانغلاق على مفاهيم مثاليّة مُتعالية وغير واقعيّة، فالحبّ أو الجنس أو الصَّداقة (أو جميعهم معاً) تجارب إنسانيّة مُنغرِسة في قلب نسبيّة الزَّمن والعيش، ومُتَّصلة عميقاً بأخلاق الاعتراف، من جانبٍ أوَّل، وبثقافة الفرح والحُرِّيّة، من جانبٍ ثانٍ، وبالبَحث المحموم للبشر عن السَّعادة في ضوء ارتباطها الكيانيّ بالبُعد الجماليّ (العيانيّ والكُلِّيّ) للوجود، من جانبٍ ثالثٍ وأخير.
شاعر وناقد سوري