مجلة طلعنا عالحرية

الربيع العربي.. أزمة الولاء والهوية الثورة السورية نموذجاً

نذير صالح

أصيبت شعوبنا وما تزال بداء الاستبداد، الذي مسح كل شيء يخصّها. حتى كادت تبدو شعوباً بلا هوية، أو باتت في أحسن الأحوال تُنسب لحُكّامها.

ففي سورياً، لن ننسى شعارات من قبيل “سوريا الأسد” و “جنود الأسد” وأشبال ومساجد ومكتبات وملاعب وجامعات ومدن الأسد!

وحين اندلع الربيع العربي كانت أولى غاياته هي الانعتاق من تلك التبعيّة، وكسر روابط الشعوب مع حُكّامها التي جعلها الاستبداد روابط حديديّة صُنعت بالنار والبطش لإخضاع إرادة الشعب لإرادة الحاكم وليس العكس!

وبطبيعة الحال، فإن كل بلد من بلدان الثورات له ظروفه وخصائصه التي يتفرّد بها، ويمتلك من المعايير الموضوعية ما جعل ثورته تأخذ مساراً في مآلاته يختلف كثيراً عن غيره من البلدان. وما يوحّد ثورات تلك البلدان اليوم ربما هو فشلها في إحراز (الانعتاق المفيد) من الاستبداد.

فباعتقادي، بقدر ما يمثّل مجرد اندلاع الثورة الشعبية منعطفاً تاريخياً في حياة المجتمعات، وبدايةً لوعيٍ جديد بكل المعطيات والمفاهيم، فإنّ المسألة لا تنتهي هنا؛ بمعنى أنّ الانعتاق من الاستبداد لا يتمّ وينتهي بكسر الخوف منه.

فالمدقّق بما حصل في الحالة السورية مثلاً سيرى حدوث أزمة حقيقيّة في المجتمع السوري بخصوص تحديد هوية هذه الثورة؛ هل هي ثورة دينية أم علمانيّة، ثورة ضدّ الاستبداد أم ضدّ الفساد، ثورة جياع وكادحين أم ثورة تجّار، ثورة يسار أم ثورة يمين.. هل هي ثورة مؤدلجة منذ لحظة اندلاعها أم أنّها ولدت عفويةً بامتياز؟..

ولو عرضتَ سؤالاً على السوريين الآن بخصوص هوية ثورتهم ستلاحظ حدّة الجدل الذي سيحصل بين مختلف التيّارات والمعارضات والمنظّمات التي ظهر معظمها بعد الثورة. ويبرّر معظم الذين قالوا إنّ أزمة الهوية هذه طبيعية في مسار الثورات الشعبية -في الوقت الذي ما يزال فيه الاستبداد يضرب هائجاً كالثور- بقولهم بضرورة تحديد هوية الثورة كي تتضح ملامح ومرجعيّة الدولة التي ستفرزها هذه الثورة بعد انعتاقنا من الاستبداد. فصرتَ ترى كلّ تيار معارض يضع الهوية التي تناسب فكره للثورة كي يتسنّى له جعل هوية الدولة بعد الثورة على مقاس تياره ومبادئه، وبالتالي نشوب صراعات بين مختلف تلك التيّارات الثائرة التي وقعت بفخ منطق المُحاصَصة، ما زاد العبء حقيقةً على الثورة نفسها وأدخل البلاد في استقطابات لا تقل خطورةً عن نظام الاستبداد. وليس إضعاف مناعة الثورات ضدّ تحدياتها الكثيرة سوى واحدة من تلك المخاطر.

وإنّ أصل المعضلة باعتقادي ليس الجدل الحاصل لتحديد هوية الثورات من قبل قوى تصدرت المشهد بتمثيلها سياسياً واجتماعياً، فهذه الأزمة رغم خطورتها -بوصفها باتت عقبة إضافية تواجه الثورات- فهي النتيجة وليست السبب، فالأمر يخصُّ بصورة مباشرة الثائرين أنفسهم؛ ففي الوقت الذي دائماً يوجد أعداء محليّون ودوليّون للثورات لم ينتبه الثائرون إلى الوسائل التي سيتّبعها عدوهم لمواجهتهم.

وأكادُ أكون على يقين أنّ أعداء الربيع أحسنوا تماماً مواجهة الثورات عبر معرفتهم الدقيقة لماهية الوعي الجمعي المحرك لمجتمعاتنا والخلفيّات المعرفية والثقافية التي بُنيت انطلاقاً منها مختلف التيارات والأيديولوجيات القائمة. فمع الأسف يدرك الأعداء تماماً أنّ شعوبنا يقدّسون ولاءهم وانتماءاتهم لمرجعيّاتهم الفكرية أو الدينية أو السياسية أو القومية، وهذا التقديس يكون غالباً وراثياً وليس معرفيّاً، وبذات الوقت هي شعوب عاشت فترات طويلة محرومةً من التعبير عن انتماءاتها في كنف الاستبداد الذي حكمها بسيف الجهل. وبالتالي ومن خلال إذكاء هذا الولاء لدى كل التيارات الشعبية المشاركة بالثورة الواحدة في البلد الواحد المبتلى بعدو واحد، سوف يصطف كلُّ ذي تيّار خلف رموز تيّاره، بَيدَ أنّ نظام الاستبداد سيظلّ متماسكاً وواحدًا في مواجهتهم.

وأعود لأنوّه هنا أن السبب ليس من قاموا عمداً بإذكاء شعور الثائر بضرورة الاصطفاف الأيديولوجي خلف رموزه السياسيين أو الفكريين أو الدينيين.

بل السبب يكمن في الثائرين؛ فمع الابتلاء الطويل بالاستبداد فقدت مجتمعاتنا ذاكرتها الثوريّة وانحسرت تماماً ثقافتها العملية في التغيير بشتّى أشكاله وأوّلها التغيير الذاتي، ولم يعد الإنسان الشرق أوسطي قادراً على انتقاء انتماءاته وفقاً لمنهج معرفي ومنطقي سيّما وهو يعيش في ظروف سُحق فيها الإنسان وقُطع لسان الحق وأصبح كالعبد في قصر السلطان الذي أصدر فرماناته التي قرّرت أنّ التفكير بدعة والرفض حرام!

وفي حالةٍ كهذه من غيابٍ تام للغة المعرفة وجوّ التربية المجتمعية الصحيّة، وفي وضعٍ باتت المجتمعات رهينة لإرادة جلّاديها، فقد الفرد قدرته على التعامل مع انتماءاته مهما كانت طبيعتها، وبات لا يفكّر أصلاً بطريقةٍ ترسم له شخصيته المستقلّة وتبني خلفيته الثقافية وتوجّهاته الفكرية، في وقتٍ اجتاحت رياح الثورات المنطقة ولم تنتظر أحداً حتى يعالج ما أفسده الاستبداد في الفرد والمجتمع، الأمر الذي خلق عند الثائر أثناء نشاطه الثوري أزمةَ تقدير في توجيه ولائه بصورة حكيمة ومنسجمة مع مبدأ الثورات المناهضة للاستبداد، خصوصاً أنّ موقفه المبدئي رسمته عفويته الفطرية برفض الظلم بعيداً عن أية اعتبارات إيديولوجية، فوقع بشرك التخبط وهو يضع انحيازاته على سلّم أولوياته في خضم الثورة، فبتنا نشهد استقطابات ذات طابع أيديولوجي. وبات الثائر الذي دفعته عفويّته الإنسانية في البداية يقدم الولاء لجماعته الحزبية أو الفكرية أو العسكرية بقدر أكبر من ولائه للثورة نفسها، ظناً منه أنّ جماعته هي البوصلة صوب المسار الثوري الصحيح، وهذا ما جعل مستوى هشاشة الثورات عالياً حتى اللحظة في مواجهة الثورات المضادّة. ووقفت الثورات عاجزةً عن إصلاح نفسها وتنظيفها من مخلفات الاستبداد. وخلق بالضرورة أزمة هوية فشلت أغلب القوى الثورية في تحديدها بسبب (عمى الولاء) الذي حلّ عليها.

إذاً نحن أمام ضرورة ملحّة لإنقاذ الثورات، وهي الانعتاق من الولاء المؤدلج، والتحرر من الانحيازات المقولبة، والعودة بالولاء نحو الجهة الصحيحة.. الولاء للإنسان.

فلا انعتاق من الاستبداد ولا نصر للشعوب دون الانعتاق المبدئي من الولاءات العمياء، ودون توجيه ولائنا صوب الحق وصلب القضية، فالثورات الحالية من الضروري ألا تكون مؤدلجة وألا تحمل أيّاً من طبائع الاستبداد، وحين يكون ولاء الثوار للإنسان ستكون بلا شك هويةُ ثوراتهم إنسانيّة فقط، ترفض الاصطفافات المغلّفة وتمضي قدماً نحو هدفها لإنقاذ الإنسان رافعةً شعار: الولاء للإنسان.. والهويّة إنسانيّة.

Exit mobile version