ضحى عاشور
“ريحانة” كانت ابنة 19 عاماً عندما استدرجها ضابط المخابرات إلى منزله لأجل العمل في الديكور (مجال تخصّصها)، وهناك حاول اغتصابها، وكان مُتعمّداً؛ حيث تقول التحقيقات إنها وجدت شراباً مُسكراً، وحسب اعترافات “ريحانة” فإنّها طعنته في ظهره وليست مسؤولة عن موته!
لسنا قضاة ولن ندخل في التفاصيل الجنائية للقضية التي أثير حولها الكثير عبر ما يزيد عن خمس سنوات تلت الحادثة. أصرّ النظام الإيراني على إعدام “ريحانة” شنقاً، رغم تدخّل منظمات حقوق الإنسان والحكومة الأمريكية، بالإضافة إلى ما يفوق مئتي ألف توقيع من مختلف الجنسيات ناشدت السلطات الإيرانية التراجع عن الحكم، ولم تفعل.
“هذا البلد الذي زرعتِ حبّه في داخلي لم يكن يريدني أبداً” هذا ما قالته ريحانة لأمها قبل إعدامها.
ربما قصدت ريحانة أنّ “السلطة” لا تريدها أبداً، عندما قالت “البلد”، لأنّ الأمر والنهي بيد السلطة وهي تستطيع التساهل لو أرادت الأخذ بالأسباب المُخفّفة في قضية “ريحانة”.. التساهل فقط، في حال لم تكن تريد (السلطة) الانفتاح أو التغييّر أو مجرد التخفيف من وحشتيها. لكن يبدو أنّ ريحانة قصدت البلد كلّه، ليس بسلطته الدينية المُنغلقة والتمييّزية ضدّ النساء فقط، وإنمّا أيضاً بثقافته السائدة وعاداته وتقاليده ذات المرجعية الدينية المُتشدّدة أيضاً.
في كتابها “أشياء كنت ساكتة عنها” تروي المعارضِة الإيرانية وأستاذة الأدب الإنكليزي في جامعات الولايات المتحدة “آذر نفيسي” أنّ: “مربيتي كانت ترفض مناداتي باسمي، فتناديني البنت، فهي تكره البنات وتقول إنهنّ مثل الشمعة في النهار، أمّا الصبيان فهم مصباح الليل وكانت قد عزمت على مغادرة منزلنا إن ولدت أمي بنتاً أخرى”.
هذا ما درج عليه القول في منطقتنا وفي كثير من بقاع العالم، وإن كان لابد أن تولد البنات، ولا سبيل إلى وأدهنّ جميعاً، فقد جرى ويجري قتلهنّ معنوياً، عبر تربية صارمة تنتزع منهنّ كل رغبة وتخنق كل فرصة بالتعبير والتعليم والعمل، بل تصادر حتى حق اختيار ملابسهن أو شريكهن أو الدفاع عن أجسادهن في حال التعرّض للأذى أو الاغتصاب. وغالباً ما تُحمّل المرأة المسؤولية عن اغتصابها بدعوى أنّ طريقة لبسها (ريحانة محجبة) أو حركتها أو مُجرّد وجودها في مكان الجريمة هو الدافع والمحّرض للمجرم على الاغتصاب! هذا جانب عجيب في النظر إلى القضية، خاصّة أنّ تقارير عديدة ذكرت أنّ معظم حالات الاغتصاب في العالم كله وبدرجات متفاوتة يرتكبها الأقرباء (أخ أو أب أو عم وخال بالإضافة إلى بقية الأقارب والأصدقاء الحميمين للعائلة).
كما أنّ الدين والعرف لم يستطعا لوحدهما تكوين رادع اجتماعي صارم تجاه الاغتصاب؛ حيث خرجت إلى العلن قضايا كثيرة كان مجرميها من قلب المؤسسة الدينية المسلمة والمسيحية (قضية الاعتداء الجنسي على رجال داخل الفاتيكان)، ومؤخراً رُفعت دعاوى اغتصاب على موظفي الأمم المتحدة (أصحاب القبعات الزرق) المكلفين بحماية المدنيين في رواندا. الأمر الذي يشير بوضوح إلى أنّ المشكلة ليست في المرأة نفسها ولا في لباسها أو خروجها.. القضية هي في وجود فئة متوحشة من البشر تمتهن الاعتداء وتستسهل الاغتصاب فيّ ظل قوانين متساهلة وثقافات تمييزيّة ضدّ الضعيف، تجعل الاعتداء عليه يسيراً وبلا تبعات. مَن يجب حجبه هو المجرم، سواء عبر إعادة تربيته وتأهيله أو سجنه أو ردعه بعقوبات قصوى وإدانته وفضحه اجتماعياً وقضائياً.
أما الجانب الأدهى والأمّر فهو الذي يقضي بأن يتزوج المُغتصِب الضحية كحّل ينقذها من الفضيحة ويجعل فعلته مُبرّرة دينياً (أي حلالاً)! هذه الفتوى العار التي تتجرأ على الكذب والتلاعب على الله بذريعة إرضاء الله! ناهيك عن انعدام أي منطق أو عدالة أو مراعاة للحس الإنساني العفوي في فتاوى كهذه، والتي لا تهدف إلاّ إلى الوقوف في صفّ المجرم وإنقاذه من جريمته. الأمر الذي جرى إلغاؤه مؤخراً في التشريعات المغربية بفضل نضالات الحركات النسوية، والذي يستلزم العمل من أجل إزالته من كافة التشريعات المشابهة.
لا يمكن لأحد تبرير القتل، ولكن إعدام ضحية مثل “جباري” هو رسالة تهديد سافر تجاه كل امرأة تنوي مواجهة مُغتَصِبها، فما الذي تستطيع فعله امرأة تجد نفسها وحيدة في مواجهة مُجرم يريد اغتصابها؟! أليس من حقها الدفاع عن نفسها؟
لا يمكن الاعتقاد بأنّ أي مُغتَصَبة تريد التوّرط في جريمة قتل، وربما من البداهة أنّ أقصى ما تبتغيه هو الخروج من الموقف وإنقاذ نفسها والهرب، لأنها تدرك بفعل التربية والقوانين الجائرة أنها ستتعرض للفضيحة وستكون في متناول ألسنة الجميع، نساء ورجالاً لمجرد أن تذكر الحادثة. خاصّة وأنّ سلطات المجتمع كلها ستقف ضدّها، وستكون لها بالمرصاد بقية حياتها. وعلى فرض أنّ المرأة التي تعرّضت للاغتصاب واجهت فجأة رغبتها بالانتقام من المُغتَصِب وقتله، ألا ينبغي أن يُعتبر أنّ الظرف الذي وجدت نفسها فيه سبب مُخفِف عند الحكم عليها؟ أليس للنساء “فورة دم”؟ فورة دم حرصاً على أجسادهن التي هي ملكهنّ؟ وكيف يكون للرجل مثلاً سبب مخفف عندما يقتل قريبته بداعي فورة الدم، كما هو الحال مع ما يُسمّى “جرائم الشرف”، ولا يكون لها هي أن تحرص على جسدها وتدافع عنه؟! الجواب بسيط في مجمل الثقافة الذكورية التي تريد الإيهام بأنّ للرجل دم يفور، أمّا المرأة فليس لها إلاّ أن تصمت وتقبل وتتحكم بردود أفعالها المُحتملة، حتى في حال الدفاع الغريزي عن النفس!
هذه الأسئلة تعيد طرحها قضية “ريحانة”، وخاصّة في ظلّ تزايد بؤر التوتر في العالم واستخدام الاغتصاب بشكل ممنهج كوسيلة للنيل من العدو في سوريا وغيرها.
قضية أخرى ذات صلة بواقعنا السوري تطرحها مسألة إعدام “ريحانة”، وهي ما قالته لأمها في رسالتها الصوتية المؤثرة والبليغة قبل إعدامها؛ حين طلبت منها أن تمنح أعضاء جسدها لمن يحتاج، دون أن تذكر شيئاً عنها، فهي لا تريد شكراً ولا ذكراً، فقط تريد أن ينتفع أحد بما هو غالٍ عليها لكنها لم تعد بحاجته. وقد أبدت حرصها على دموع أمها. وعزاؤها بأنها ستحاكم قتلتها أمام الله.
لم تكن “ريحانة” مناضلة ولا نسوية، كانت شابة متعلمة في أوج تفتحها على الحياة، لكنها وفي رسالتها تفصح عن قدر من الحكمة والتسامح والمعرفة قلّ نظيره. فمن يتوّقع من صبية ذاهبة إلى الموت وقد عانت من الظلم والتعذيب والسجن والقهر، أن تمتلك هذا الشعور بالمسؤولية تجاه إخوتها البشر لتمنحهم أعضاء جسدها؟!
هذه الروح الشجاعة والمؤمنة بالخير، المترّفعة عن الحقد والانتقام بذريعة وحشية العدو، هذه روح حيّة واقعية أصيلة نحتاجها، خاصة وأنه شاعت عندنا عادة تبرير الجرائم التي ترتكبها فصائل أو أفراد محسوبين على المعارضة بالقول: إن العدو مجرم، أو بأن إجرام العدو يحرّض على إجرام مقاوميه.
اليوم وإذ نتذكر “ريحانة جباري”، ينبغي أن نعيد التأكيد على الوقوف في وجه كل أشكال الاغتصاب: اغتصاب الأرض والسلطة والجسد والكرامة والرأي والحقوق، وفي مقدمتها اغتصاب حق الحياة وضمان حق التقاضي للناس جميعاً دون أن يصل إلى القتل أو الإعدام.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج