مع الإجراءات الاستثنائية التي أعلن عنها الرئيس التونسي الشهر الماضي في اجتماعه مع القيادات العسكرية والأمنية، وهو مما لا تخطئ قراءتَه عينٌ ديمقراطية، بدا واضحاً أن تجربة آخر بلد عربي من بلدان الربيع العربي تم تقويضها لصالح عودة العسكر والقوى الأمنية للسيطرة على الحياة السياسية. لينتهي بذلك المسار الديمقراطي الوحيد الذي صمد عشر سنوات وأعطى أملاً لبقية المنحازين للثورات على الأنظمة المستبدة بقابليته على التحقق في بلدانهم أيضاً، برغم ما عانوه من سحق عسكري، سواء تحقق لديهم شعار (إسقاط النظام) أم لم يتحقق.
ذلك الشعار الذي تفرّد بالاتفاق عليه من جميع المنحازين للثورات، واختلفوا على جميع ما دونه، بدا عامل قوة في ثورات وعامل ضعف في أخرى بتأثير عوامل سنرِدُ عليها. المقصود هو أن التمحور حول (إسقاط النظام) الذي بدا مسبِّباً لإنجازات اتضح أنها مؤقتة، كان جلياً في حالات أخرى على عدم كفايته لإنجازها، عدا عن إنجاز نظام قادر على تحقيق سبل الحياة الكريمة والعادلة في الحالتين.
والحال أن الشعوب التي انتفضت ضد واقع التردي السياسي والمعيشي، يائسةً من قدرة الأنظمة الحاكمة على نقلها إلى أحوال أفضل، علاوةً على توغلها في الفساد والممارسات التمييزية وقمع أي صوت يعلو ضد ممارساتها، والتقتْ بذلك مع أحزاب سياسية وحركات ونشطاء على رغبة في المشاركة السياسية والتأثير في الشأن العام، واجهتْ مع الوقت قصور الشعار وحده في إنتاج تجاوز للواقع الذي قامت ضده الثورات. ودخلت القوى السياسية في مسألة (كيف نحكم؟) من أجل تحديد (من يحكم؟)، لا من أجل الكيفية ذاتها. وانخفضت عتبة الصراعات الإيديولوجية بين التوجهات السياسية، إسلامية كانت بكل تفرعاتها أو علمانية من أقصى اليسار إلى الليبرالية، في وجه ارتفاع عتبة التماس ما قد يفضي إليه واقع زيادة تدهور الأوضاع الاقتصادية والأمنية التي لا مفرّ منها وتفرضها الصدمات الكبرى مثل الثورات بأي حال. هذا ما جعل ما يسمى بقوى “الثورة المضادة”، مدعومةً من المحور (الإماراتي – السعودي)، تستغل الصراع الإيديولوجي لتنتصر لإحداها وتكسب تأييدها، ولتنفذ من هموم المعيشة التي تتثاقل يومياً على عموم السكان، اقتصادياً وأمنياً، فتفضي إلى العودة للسيطرة على الدولة. وبالطبع، فالغائب الأكبر عن ذلك المسار هو الديمقراطية.
والحال أنه برغم ظهور الإسلاميين كمدافعين عن الديمقراطية في الحالتين التونسية والمصرية في وجه القوى العلمانية التي هللت لإزاحتهم عن الحكم دون استشعار واضح لخطر هذا المسار “الثوري المضاد” بسبب أولوية الصراع الإيديولوجي على ترسيخ الديمقراطية كما ذُكِر، فقد كانوا في دول أخرى أول المنقضين عليها، كسوريا وليبيا. علاوة على أنهم اتخذوا من الديمقراطية مساراً إجرائياً لا مبادئ ديمقراطية فيه سوى صندوق الاقتراع، فسمحوا لأنفسهم بتجيير المؤسسات الإدارية والقضائية لنفوذهم السياسي، متجاهلين المبادئ الديمقراطية التي لا تبيح ذلك، وأنشؤوا إدارات ومؤسسات وأذرع لتضمن ولاءها، وشرّعت القوانين لتجذير وجودها وتهميش غيرها، أو شرَعت في ذلك في بعض الحالات دون أن تحققه ودون أن يخفى التشابه النوعي بين القوى الإسلامية جميعاً، وإن اختلف كمياً في تحقيقها لمشروعها الساعي للتحول إلى “حزب قائد للدولة والمجتمع”، مدعومةً كذلك من المحور (القطري – التركي) المدعي الدفاع عن الديمقراطية.
وقد ظهر من خلال السنوات العشر الغابرة وما جرى فيهما في الاتجاهين (الثوري – الثوري المضاد)، محاطين بالقوى الإقليمية والدولية المتدخلة، أن تلمّس الحاجة لترسيخ ديمقراطيات للانتقال إلى أوطان حرة وكريمة وعادلة تهمّش أو غاب فيها الفعل السياسي. وإن كانت هناك قوى ديمقراطية تدرك أهمية ترسيخها ونتائجها على المدى البعيد، إلا أنها بقيت أصغر الفئات بين المتصارعين (إسلامياً – علمانياً) والدول الراغبة بإيجاد أنظمة موالية لها، وعموم السكان الذين تقع همومهم في الحال اليومي المتردي ويريدون حلولاً سريعةً تؤثر في واقعهم. وإن كان المسار الديمقراطي الذي يفضي إلى الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية وفصل السلطات ومكافحة الفساد وترسيخ المبادئ الديمقراطية غير الإجرائية -أو ما يصطلح بتسميتها المبادئ فوق الدستورية- تتطلب الانطلاق في المسار الإجرائي وإنتاجها مع الوقت ومع التطور الحر للمجتمعات، إلا أنه لا يمكن في أي وقت تحييد العناصر المضادة لها في الاتجاهين (الثوري – الثوري المضاد).
لذا، وبعد هذه السنين العشر التي انتهت فيها كل تجارب الديمقراطية في بلدان الربيع العربي، يبدو أن توسعة القاعدة الديمقراطية بين القوى السياسية والفئات الاجتماعية لتشمل المبادئ غير الإجرائية التي تضمن فصل القوى السياسية عن التغول المؤسساتي، وفصل السلطات عن بعضها، ووضع قاعدة مواجهة المشاكل بأدوات دستورية وقانونية فوق الحلول الاقتلاعية والانقلابية، وكون كرامة الإنسان وحقوقه فوق التفسيرات الغيبية والماضوية والبراغماتية، هي ألحّ ما يجب أن تعمل القوى الديمقراطية على خوض النضال من أجله.
وإن كان ذلك النضال يتشابك مع قضايا كالإصلاح الديني ومواجهة الثورات المضادة واقتراب أكبر من حاجات المواطنين وهمومهم، التي قد لا تبدو على ارتباط مباشر برغم أنها تقع في صلب الهدف الديمقراطي، ما يجعله يبدو حملاً أكبر من قدرتها، إلا أن الانشغال المعرفي فيه والنشاط باتجاهه يبقى المجال الوحيد الممكن في واقع استيلاء “الثورات المضادة” على السلطة، وجنوح معظم القوى العلمانية لتأييد إجراءات غير ديمقراطية في مواجهة قوى غير ديمقراطية… مثلها.
وعسى أن تنتج السنوات أو العقود القادمة تحولات ديمقراطية، ربما لا نكون من أبنائها.
من درعا، مواليد 1986. طبيب أسنان وكاتب وناشط مدني يعيش في الغوطة الشرقية