غسّان ناصر
منذ رمضان الأول بعد الثورة وحتى يومنا هذا، ما إن تبلّل قطرة الماء الأولى شفاه الصائمين العطشى، تسمعهم يردّدون معًا “اللهم أعنّا على الصيام والقيام، وإسقاط النظام”، مبتهلين بصوت واحد “آمين يا ربّ العالمين”.
وفي رمضان العاشر ما بعد ثورة الحرية والكرامة، تبيّن المؤشرات والإحصاءات الدولية، أنّ “نصف السوريين في خيم النزوح واللجوء”، معظم هؤلاء صائم منذ شهور رغمًا عن أنفه، بسبب سياسة التجويع والحصار، وبعضهم لا يجد ما يسدّ الرمق على مائدة الإفطار. فهذا النظام الوحشي الذي يستخدم سلاح الجوع لإخضاع السوريين وإعادة السيطرة عليهم لا يكترث بما آلت إليه أحوالهم سواء في دمشق وريفها أو في كافة المدن والبلدات الخاضعة لنفوذ قواته العسكرية، لا بل يزيد من بؤسهم وفقرهم المدقع بمواصلة نهب خيرات وثروات البلاد الذي يأكل بطون الناس الذين يقاسون للبقاء على قيد الحياة في الزمن السوري الصعب.
وعلى الرغم من شدة بؤس الأوضاع الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية، فإنّ أهل الشام يحرصون على إضفاء أجواء احتفالية على رمضان بالرغم مما يعانونه من أوضاع مأساوية جراء نزوح عشرات الآلاف من العائلات عن بيوتهم في دمشق وريفها بعد أن دمرت ونهبت.
رمضان الدمشقيين أيام زمان.. عادات وتقاليد اندثرت
كانت أجواء رمضان في دمشق وعموم المدن السورية ساحرة وغنية بالتقاليد الشعبية، حيث كان كل شيء يختلف مع إطلالة هذا الشهر المبارك بدءًا من حركة الأسواق ومرورًا بالمسحراتي والحكواتي (القصاص الشعبي) وانتهاء بفرحة العيد، ورغم التبدل الكبير الذي حدث في حياة الدمشقيين إلّا أنّ هناك الكثير من العادات المرتبطة بهذا الشهر توارثها الأجيال وتناقلوها ويصرون على إحيائها كل رمضان لأنها تحاكي روح التراث والأصالة والمحبة والتواصل الديني والأخلاقي والحياتي فيما بينهم، وهي عادات تكاد أن تندثر هذه الأيام إلّا من بعضها.
غير أنّ هذه الأجواء الرمضانية العريقة تغيب عن دمشق للعام العاشر على التوالي، فدمشق التي تكاد تنفرد بتقاليد مميزة عن مثيلاتها من الحواضر العربية والإسلامية في تعايش الناس مع الشهر المبارك فيها، يئن أهلها تحت وطأة الحرب والأزمات الاقتصادية المتتالية التي أدّت إلى انهيار غير مسبوق تاريخيًا لليرة السورية أمام الدولار الأمريكي (كل 4700 ل.س تساوي دولار أمريكي واحد في منتصف آذار الماضي)، كان الدمشقيون يستقبلون الشهر بالزينات والأنور والأعلام والآيات القرآنية على أبواب البيوت والدكاكين حيث تتلألأ الأضواء في أشهر أسواق دمشق القديمة؛ سوق الحميدية، وسوق الحريري، وسوق القيشاني، وسوق البزورية وغيرها من الأسواق. ويطلق الدمشقيون على العشر الأُوَل من شهر رمضان “المرق” لانهماك الناس في أيام اليسر والخير بطعام الشهر وموائده المتنوّعة، حيث كانت الأسرة الدمشقية تهتم بتقديم ما لذَّ وطاب من أصناف وألوان الطعام والمشروبات.
أما العَشر الوُسْطَى من الشهر فتسمّى “الخِرَق”، أي لشراء ثياب وكسوة العيد ولوازمه، حيث كانت تكتظ أسواق دمشق بالمتسوقين، فتنار أضواؤها وتفتح أبوابها حتى وقت السحور وتكاد لا تفرق بين الليل والنهار.
أما العَشر الأواخر من شهر رمضان فيسمونها “صرّ الورق” حيث كانت النساء تنهمك بإعداد حلويات عيد الفطر.
وكان الناس في سنوات ما قبل الثورة، يقصدون المقاهي التي كانت تحيي إرث الحكواتي في الشهر الكريم، وتعدُّ مقهى النوفرة المحاذية للجامع الأموي في قلب دمشق القديمة من أشهر تلك المقاهي، حيث كان يجلس الحكواتي على كرسي مرتفع يتصدر المقهى الشعبي، ويقصّ على الحاضرين قصص “عنترة العبسي”، و”الزير سالم”، و”الظاهر بيبرس”، و”أبي زيد الهلالي”.
وعُرّف عن الدمشقيين قبل السنوات العشر العجاف، تحضير موائد رمضانية يحكى عنها في مشارق الأرض ومغاربها، فقد كان أهم شيء في مائدة الإفطار الدمشقية شوربة العدس أو شوربة الشعيرية ومعها اللحم أو مرقة الدجاج. أما صحن الفول فهو سيد طاولة الطعام في رمضان، ثم الفتة أو التسقية (مكوّنة من الحمص المسلوق مع اللبن والطحينة والثوم والليمون والمكسرات المحمصة أو المقلية)، وأهم الوجبات هي الكبة والمحاشي وغيرها من الوجبات المحببة لدى أهل الشام، مع السلطات الغنية بالخضار أو التبولة والفتوش. ليأتي بعد ذلك أطباق الحلويات المشهورة دمشقيًا كالعوامة والمشبك والكلاج والنهش والقطايف العصافيري بالقشطة والجوز، والناعم (طبق شعبي من العجين مقلي بالزيت ومزين بالدبس)، بالإضافة إلى الغريبة والبرازق والكنافة والنمورة والبقلاوة والهريسة والمعمول إلى جانب ما يتوفر في الموسم من فواكه.
ومن أشهر المشروبات في المائدة الرمضانية العرق سوس والتمر الهندي والقمر الدين والتوت الشامي وغير ذلك من الطيبات. لكنّ أغلب هذه العادات والمأكولات الشهية والمشروبات اللذيذة بعد صيام يوم طويل لم يعد بمقدور السواد الأعظم من الدمشقيين تناولها اليوم بسبب ضيق ذات اليد.
أما وجبة السحور التي كان الناس يعتمدون فيها على المعروك والأجبان والألبان والمربيات والزيت والزعتر والبيض وبعض المعجنات وغيرها ستقتصر في هذه الليالي الباردة كالحة الظلام على القليل من الخبز واللبن إن توفّر بعد أن وصل الكيلو غرام الواحد ما بين 1300 إلى 1500 ليرة.
وفي هذه الأيام الفضيلة يتقاسم الدمشقيون في بيوتهم النفقات التي تزداد في شهر الصيام، البعض منهم يقترض والبعض يكتفي بالعيش بالقليل الذي لديه ولا يشكو.
كما يعمل أهل البر والإحسان في الكثير من الأحياء الدمشقية على توزيع وجبات إفطار وسحور مجانية أو سلال غذائية على المحتاجين والأسر المعوزة، بمساعدة المخاتير أو شيوخ الجوامع الذين يعرفون ما خفي من دواخل البيوت المستورة.
ومع اشتداد تفشي وباء (كوفيد-19) والإعلان عن سلالات جديدة من الوباء القاتل، يتّخذ الناس ما أمكنهم من إجراءات ستحدُّ من أواصر المحبة والألفة بين أفراد المجتمع السوري في شهر رمضان المبارك، بعد أن كانوا يجتمعون مع أحبتهم وذويهم على موائد الإفطار ويتبادلون تحيات الود والمحبة في الجوامع بعد صلاة التراويح.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج