عمل النظام السوري منذ بداية الثورة السوريّة على ضرب العمل المدني والسياسي في سوريا، وإفراغ الثورة السوريّة ومدنيّتها وأهدافها من مضمونها الذي بدا واضحًا في شعاراتها الأولى وأصواتِ من خرجوا في الشوارع قاصدين نيل الحرية، وأصرّ على اغتيال الأصواتِ المدنيّة وتغييبها أو تهجيرها وجرّ الثورة إلى لعبةٍ يتقنها ويحبّ أن يلعبها، وسعى بكلّ ما يملك من قوّة إلى تحويل الثورة إلى حرب تفتك بالسوريّين وحياتهم وأحلامهم، بعضُ الناشطين السياسيّين تحوّلوا إلى ناشطي إغاثة بحكم عدم القدرة على عمل سياسي حقيقيّ وسط هذا الموت، بعضُهم ترك سوريا بعد عدّة اعتقالاتٍ وحاول العمل من الخارج، وبعضُهم حاول لملمةَ ما يمكن ليصلحَ ما أفسده الموت، وآخرينَ أخذهم الموتُ أو السجنُ ولم يعودوا!
عائد من الموت لتأسيس الدفاع المدني
مؤّسسات المجتمع المدني وإن كثُرت خارجَ سوريا وقلّت داخلها، تحمل على عاتقها مهمّة إنقاذ هويّة الشعب السوري المدنيّة، وإحدى أهمّ هذه المؤسّسات هي الدفاع المدني السوري أو ما بات يعرف بالقبّعات البيض، لا نعرفُ أسماءهم، ولم يظهروا على القنوات الفضائية، ولم يدخلوا في أيّة محاصصة سياسيّة، هدفهم “إنقاذ أكبر عدد ممكن من الناس بأقصر وقت ممكن” بحسب تصريح ممثّل الدفاع المدني في درعا د. جهاد محاميد الذي اعتقل لمرّتين وخرجَ في الثانية عن طريق مبادلة بين النظام والجيش الحر بعد أن أُنقِذً من قرار التصفية الجسدية، يعرّف د. جهاد عن نفسه: “جهاد محاميد ممثّل الدفاع المدني السوري في درعا، أحمل شهادة دكتوراه في الإدارة الماليّة، عملتُ على تأسيس الدفاع المدني في المناطق المحرّرة التي فقدتْ جميع الخدمات من جهه النظام ليكون البديل في هذه المناطق، كانت مبادرة فردية وبدعم من منظمات المجتمع المدني لغاية الشهر العاشر من عام 2014 تاريخ الاجتماع الاسترتيجي لكافة قادة الدفاع المدني في جميع المحافظات السوريّة، وتم تأسيس (الدفاع المدني السوري)”.
صعوبات وتحدّيات
في الشهر الخامس من عام 2015 قام أعضاء هيئة الدفاع المدني بالإضراب عن العمل نتيجة اعتداء الفصائل المسلّحة على مبنى الدفاع وإصابة أحد أعضاء الهيئة بعيار ناري، ومحاولة بعض الفصائل الاعتداء على أملاك الهيئة من الآليات، إلّا أن هيئة الدفاع المدني نجحت في الحفاظ على استقلاليّتها ومنع أي اعتداء آخر، يتابع د. جهاد: “ لم يتوقّف عمل الدفاع المدني في أصعب الظروف ورغم قلّة الإمكانيّات وسيستمرّ حتى بعد سقوط النظام، المصاعب الماليّة موجودة بسبب ارتفاع أسعار الوقود والمواد اللازمة، ونقص الآليّات وارتفاع أسعارها وأسعار قطع الغيار الخاصة بها، الهدف الرئيسي للدفاع المدني هو إنقاذ أكبر عدد من السوريين، لذلك نحن نعمل مع الجميع ونكسب ثقة الجميع نظرًا لحياديّة المنظّمة وعملها الإنساني البعيد عن السياسة والتحيّز لأيّ طرف كان، فهدفنا الأوّل هو الإنسان دون النظر إلى خلفيّته وانتمائه بأيّ شكل كان، عمل الدفاع المدني ليس سهلًا خاصة في الحروب واستخدام الأسلحة الثقيلة، ولكنّنا مستمرّون في عملنا طالما أن هناك أشخاص يحتاجون لعملنا مهما كلّفنا الثمن”.
المرأة السورية في الدفاع المدني
يُحسب لدرعا غياب حالة التطرف بشكل شبه كامل كما يحسب لها غياب عمليات الانتقام الطائفي التي حصلت في مناطق أخرى، كما أنّ للمرأة السوريّة هناك دور أساسي في العمل الثوري والسياسي والمدني، وسيّدات الدفاع المدني في درعا لهن فضل كبير في نجاح هذا العمل، يضيف د. محاميد: “ لا فرق بين نساء ورجال الدفاع المدني فالاهتمام بالدرجة الأولى يتركز نحو الاختصاصات والخبرات اللازمة للقيام بالعمل على أكمل وجه، نحن نغطي كافة المناطق الخاضعة لقوات المعارضة السورية من خلال 13 مركزًا رئيسيًا مقسّمًا إلى 3 قطاعات وهي: ( درعا المدينة، ريف درعا الشرقي، والريف الغربي)، جميع المراكز يتواجد فيها العنصر النسائي دون استثناء من خلال غرف خاصّة بالنساء في كلّ مركز وهنّ مؤهّلات حسب احتياجات المراكز، لقينا ترحيبًا كبيرًا من الأهالي لتواجدنا في الدفاع المدني السوري، وخاصة أنّ النساء في المجتمع يرتحنَ لوجود عناصر نسائيّة قادرة على تقديم المساعدة لهنّ دون حواجز، مكّننا هذا من الوصول إلى شريحة واسعة من النساء والأطفال والتعامل معهم بشكل مريح دون عوائق اجتماعية، كذلك لقينا تشجيعًا من الرجال حيث شعروا بارتياح لوجودنا ومساعدة أسرهم وخاصة النساء والأطفال وتقديم الاحتياجات لهم دون إحراج، وحتى اللحظة لم نواجه مشاكل في عملنا”
خسارة العمل السياسي مقابل الانساني
كانَ د. محاميد من أوائل الذين خرجوا في مظاهرات درعا، وكما حدث مع معظم الناشطين، اضطر للتخلّي عن نشاطه السياسي ليعمل في المجال الإنساني، ويرى أنّهم بحاجة للحفاظ على أرواح السوريين ليستطيعوا إكمال العمل السياسي والمدني، لذلك يرى أنّ الأفضليّة اليوم للعمل الإنساني ولو “خسرنا عملنا السياسي مقابل العمل الإنساني لأنّه أهمّ في هذه المرحلة” بحسب تعبيره، ويكمل: “ ليس من السهل العمل في ظروف الحرب وخاصة مع القصف بالبراميل المتفجرة والصواريخ الفراغية من قبل المقاتلات الحربية، بالإضافة إلى الأسلحة الثقيلة والتي غالبا ما تستهدف المناطق التي نعيش فيها بشكل يومي، وقد تعرض عدد من عناصر الدفاع المدني لإصابات وقد تم استهداف عدد من مراكز الدفاع المدني بالبراميل المتفجرة والصواريخ الفراغية أسفرت عن إصابة عدد من العاملين في المراكز بالإضافة إلى دمار كبير في الأبنية والآليات والمعدات التي تم تأمينها بصعوبة بالغة”.
ماذا عن شروط التمويل؟
لقد تمّ ضخ المال السياسي بشكل كبير في سوريا، أفرز هذا مجموعات مسلّحة ومنظّمات مواليةٍ لأجندات إقليميّة ودوليّة ليست في مصلحة السوريّين، ونعلم أنّ الأمر بدون تمويل يعني الموت، والموت فقط، فهل كان التمويل مشروطًا؟ وهل فرضت عليكم أيّة طلبات؟ يجيب د. محاميد “لا تفرض علينا أيّة شروط من الدول الداعمة وليس لنا علاقة بالحكومة المؤقتة ولا بالمجالس، ولكن ننسّق مع الجميع ولا ننضوي تحت أي منهم، ولا توجد أيّة جهة في درعا تعارض عمل الدفاع المدني، نحن نقف على مسافة واحدة من كلّ الاطراف، نسعى إلى وقف القتل من كل الاطراف ونطمح إلى رؤية سوريا دولة مزدهرة، وسوف يكون لنا دور في إعاده الاعمار”.
*شاعر وكاتب صحافي فلسطيني سوري.
شاعر وكاتب صحافي من سوريا – فلسطين.
رئيس تحرير صحيفة “أبواب” ومحرر القسم الثقافي سابقاً في مجلة “طلعنا عالحرية”. صدر له في الشعر “سيرًا على الأحلام” 2014 عن دار الأيام – الأردن، وله كتابان قيد الطبع في الشعر “لم ينتبه أحد لموتك” و”لابس تياب السفر” في الشعر المحكي. يكتب في العديد من الصحف والمواقع العربية والألمانية. ترجمت نصوصه وقصائده إلى لغات عديدة كالإنكليزية والألمانية والبوسنية. يعيش في ألمانيا منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2014 بعد استضافته من قبل مؤسسة الأديب الألماني “هاينرش بول” في منحة تفرّغ إبداعي للكتابة.