ككل حدث سوري طوال السنوات التسع الكارثية لليوم، تبرز على السطح السياسي، لا موضوعية الاختلاف بوجهات النظر والعمل على تكوينها وتطويرها وفق محددات عمل وطنية تفترض شرطي الزمان والإمكانية! بل تذهب باتجاه المزيد من التنافر والتحاجز وفرض الإرادات التي قد تصل للتخوين وتهم العمالة الفجّة التي تمارسها السلطات ذاتها؛ والقول هنا عند المطالبين بحقوقهم الشرعية في مسار ثورة تحولت لكارثة كبرى، فالكلّ يرى الحق على مقاسه وحسب، دون أن يحاول تناوله مع الآخرين كحق عام مشترك.
وتبدو مناسبة الحدث اليوم شائكة جداً؛ فموضوعة اللجنة الدستورية وآلية العمل الأممية عليها تصبّ في ذات الموضع؛ لتجد اليوم ذات التكرار في صيغ القبول الكلّي باللجنة والتعويل عليها في الحل السوري، وفي الطرف الآخر تخوينها وتخوين كل المشاركين بها! فإن كانت هاتان الرؤيتان حدين متطرفين في الحكم، فما بينهما يكاد ينوس ناحية إحداهما دون الأخرى، سوى بعض الرؤى التي تضيع في زحمة التطرف السياسي هذا، والتي تحاول أن ترى ممكنات الواقع اليوم بعد الحالة الكارثية التي آلت إليها الثورة والمسألة السورية بعامّها، وهنا السؤال المفصلي: فقبل الوصول للحكم النهائي على الدستورية كممر إجباري كباقي ممرات الثورة التاريخية، والتي باتت أقل ما توصف به بالكارثة العالمية الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية، يتوجب الوقوف على محددات اللحظة الحالية وإمكانياتها.
في الخلفية، أتت اللجنة الدستورية كسلة من بين سلال ديمستورا الأربعة خلال مؤتمر جنيف/4 أوائل عام 2017، وذلك بفارق شهر تقريباً عن انطلاق لقاءات أستانة بعد موقعة حلب الكارثية، والمرعية بالترويكا الروسية-التركية-الإيرانية الفاعلة في الأرض السورية عسكرياً. واللافت للنظر أن السلال الثلاث الأخرى أخذت بمرجعية القرار 2254/2015 لمجلس الأمن والمتعلق بشكل رئيس بإقامة حكم غير طائفي يضم الجميع، وأيضاً محاربة الإرهاب دون تحديد هوية الحكم غير الطائفي أو معناه أو تحديد الإرهاب وشكله. لتكرّ سبحة التدهور والتراجع في ملفات الأمم المتحدة المتعلقة بسورية عبر تفريغ محتوى الانتقال السياسي، للاكتفاء بتنفيذ سلال ديمستورا سلة سلة، وهو ما قدم سلة الإرهاب أولاً التي تتيح لكل الأطراف اللعب على وتره عسكرياً وميدانياً وبالضرورة سياسياً في تنفيذ أجنداتها في المسألة السورية، واليوم الانتقال إلى سلة الدستورية وآليات عملها بذات شروط تقاسم النفوذ!
فحيث لا يمكن لتحليل سياسي أن يخطئ المرمى من هذه التحولات في سياق الملف السوري أممياً، والذي بات محط تنازع إقليمي ودولي في الحصة الأكبر من سوريا، ومفتاحه الأساس حل سوري بمرجعية الأمم المتحدة وحل روسي بمرجعية سوتشي أوائل 2018 وقراراتها الاثنتي عشر وعلى رأسها تشكيل دستور سوري بمواصفاته الخلابة علمانياً وديموقراطياً، مع مواربة روسية واضحة لمرجعية 2254/2015 سواء للتخلي عن مقررات جنيف/1 بهيئة حكم كاملة الصلاحيات، أو بتقليص موضوعة الانتقال السياسي للجنة دستورية ومحاربة الإرهاب.
ومع هذا، وقائع الأرض ومجريات الحدث السوري تشير وضوحاً لعدم قدرة روسيا على فرض كامل مساري أستانة العسكري ومن خلفه سوتشي السياسي؛ فسوريا بالنسبة لروسيا اليوم لا كما العراق بالنسبة لأمريكيا عام 2003، حين استطاعت وقتها أمريكيا الاستفراد بها وبمرجعية قرارات أممية واضحة، ومنها تبرز جزئية الحل الممكن بين هذين المحورين في الملف السوري، والذي بات مرحلة دولية تشكل ضرورة لكل الأطراف في تفادي تأجيج خلافتها البينية، وذلك لتجنب أي صدام ممكن بين قوتين كبريين فيها.
لا عودة للخلف والتاريخ لن يعيد تكرار نفسه، وذات سلطة النظام تحاول التملص من استحقاقات اللجنة الدستورية ذاتها بغية إرجاع نصره العسكري لنصر سياسي يبثه من دمشق، وهذا ما بات مستبعداً بظل الموازين الدولية القائمة وتباينها خلف المسألة السورية وطرق حلها، فحتى وإن استطاع إعادة اللجنة لدمشق لن يستطيع حلّ مشاكل إعادة الإعمار واللاجئين والاقتصاد والاستقرار لارتباطها عضوياً في الملفات الدولية، والأهم من هذا وذاك أن اللجنة الدستورية بحد ذاتها تمثل شكل الصراع الدولي على مواقع النفوذ العالمي بطريقة ناعمة لا صدامية كبرى على أساس سلطة محلية في سوريا ومنها.
الأمان والاستقرار والعيش الكريم خلاصة أي دستور يمكن صياغته قانونياً بوقت قصير! لكن عقداً اجتماعياً على هذه الثلاث يتطلب المزيد من الممارسة السياسية والصبر النفسي وترويض العقل السياسي على قبول الآخر المختلف من جهة والتمسك بالثوابت من جهة أخرى أياً كانت النتائج، والثوابت اليوم كما كانت قبل تسع سنوات هي ذاتها الثلاث مرفوعة على أسّ الحرية والثورة بالمبدأ، مستبعدة شكلي مركزية السلطة الأمنية والعسكرية المتغولة والنفي السياسي الكلي المحمول على “أداليج” النفي الجاهزة المسبقة سلفاً والتي تنفي أي عقد اجتماعي رضائي ممكن، ولنقل هي ذات الثورة على المنظومتين وما تشكلانه من وجهين لعملة واحدة، فالثورة مستمرة وما تأخر نتائجها لليوم إلا لذات الأسباب التي واجهتها أصلاً في منظومات الهيمنة السلطوية من جهة والسياسية والدينية والفصائلية من جهة أخرى.
فالقول بأن اللجنة الدستورية ستأتي بحلم السوريين المهمشين والمغلوبين على أمرهم في كل شتات الأرض وتحتها هو مجازفة بالحق، لكن رفضها كليّة هو مجازفة بالمصير الكلي؛ فقد بات من الضرورة اليوم العمل على تضمين هذه اللجنة مفاهيم فوق دستورية تتعلق بالحريات والحقوق العامة وطرق إدارة الحكم بطريقة لامركزية وتحت ضمانة الأمم المتحدة والضالعين بالملف السوري فعلياً، وبالضرورة استجابة روسيا لإجراء تغيرات جزئية في بنية النظام الأمني والعسكري وواجهاته الاقتصادية حتى تضمن مرجعية دولية لها في الحل السوري، وهو ما على قوى المعارضة فعله أيضاً بالمقابل حتى يتسنى تحقيق حلّ جزئي يتعلق زمنياً بمرحلة مؤقتة لتحكم الإرادات الدولية على مستويي المعارضة والنظام بحلّها السياسي، وعلى مستوى إمكانية وفتح المجال، وإن كان جزئياً، للعمل المدني والسياسي في الداخل السوري بعد أن أكلته آلة الحرب العسكرية بكل صنوفها، لتبقى هذه الدستورية “شرّ لابد منه” وليست سوى محطة من محطات العمل الممكن مرحلياً!