في وقت تشهد فيه المجتمعات السورية تحولات كبيرة في سياساتها وعلاقاتها وتفاعلها فيما بينها، وينخرط فيه السوريون لأول مرة في شأنهم العام، ويشكلون كتلاً وجهات سياسية ومنظمات مجتمع مدني، ويعيدون تنظيم أنفسهم بما يجدونه ملائماً لهم، داخل سوريا وخارجها، تندر الدراسات والأبحاث التي تستقصي تلك التحولات والتجارب وتقوم بتحليلها ومقاربتها معرفياً.
وجلُّ تلك الأبحاث القليلة يتم خارج سوريا. ولذلك أسباب ومبررات أهمها وطأة الحرب الدائرة التي تجعل أي عمل بحثي ومعرفي تتم محاولة إنجازه في الداخل محض ترف بين القصف والجوع والموت المحيط، والخوف من اعتبار مثل هكذا أعمال، ضمن الحرب، لها أهداف استخباراتية، سواء في مناطق سيطرة النظام أو الخارجة عن سيطرته.
ففي المناطق الأخيرة، تشكل دراسة التشكيلات العسكرية المقاتلة ضد نظام الأسد من حيث تكويناتها الاجتماعية وعلاقاتها السياسية وإيديولوجياتها وسيروراتها، أخطر ما يمكن أن يتم من أبحاث من ناحية الأمان الشخصي لفريق الباحثين. رغم أنها قد لا تكون أهم ما يمكن إنجازه. وتكاد جميع الأبحاث المكتوبة حول الشق العسكري قد تم إنجازها على بعد ومعتمدة بشكل أساسي على ما يتم نشره إعلامياً من وثائق أو بيانات أو تصريحات أو أخبار. وتكاد تغيب الأبعاد الاجتماعية والمعلومات غير المنشورة عن تلك الأبحاث.
لكن لا يقتصر الخطر والخوف على الشق العسكري فحسب، فلا يمكن إجراء بحوث تخص الجوانب المدنية والسياسية بسهولة. فالتوجس أولاً من أذرع النظام وثانياً من استخبارات الدول العظمى التي يكنُّ لها السكان العداء بعد أن أيقنوا أنها لا تهتم بإنهاء مأساتهم، يطغى على أي تفهم لضرورة هكذا أبحاث من أجل السوريين أنفسهم. والمثير للسخرية من هذا الجانب أن تلك الاستخبارات تعرف عن السوريين أكثر مما يعرفونه عن أنفسهم. وتقوم بإجراء الدراسات غير المعلنة عبر وسائل بحث وتجسس، مباشرة وغير مباشرة، تجعلهم يَخلصون عبر أدواتهم الثقافية والمعرفية إلى تحليلات ونتائج ومقاربات يبنون عليها سياساتهم.
مرة قال لي صديقي: في وقت تنتشر فيه مراكز الأبحاث في الدول الغربية لتدرس كل شيء، لدرجة أنني لا أستغرب أن أجد مثلاً بحثاً عن طرائق زرع البطاطا في ألمانيا في القرن السادس عشر، نخاف نحن من إحصاء عدد كباسات (آبار) المياه المحفورة حديثاً في غوطة دمشق الشرقية وخريطة توزعها.
إن الأبحاث والدراسات هي حاجة للسوريين أولاً. ويجب أن يتم إنجاز الكثير منها بتواجد الباحثين ضمن أماكن تواجد موادها، وتدريب الناشطين المهتمين على القيام بها، بالتعاون مع باحثين متخصصين يعيشون خارج سوريا إن لزم الأمر. وتحضير أنفسهم لإقناع الفئات المستهدفة بأهمية ما يقومون به. لكي يكون لدى السوريين ما يعرفونه عن أنفسهم وما يساعدهم على إدارة شؤونهم وامتلاكهم أمرهم.
من درعا، مواليد 1986. طبيب أسنان وكاتب وناشط مدني يعيش في الغوطة الشرقية