عجيب هو هذا العالم، غريب وموحشٌ، متوحّش إن أردت أن تراه بعين.. لكنه عقلانيٌّ ومثير إن أردت أن تراه بعين مغايرة..
التعايش مع مجريات أحداثه فنٌّ لا يتقنه معظم الناس. التعايش أمرٌّ صعب، ليس لأنّه يتطلّب الكثير من الذكاء؛ بل على العكس تماماً، لأنّه قد يتطلب منك قدراً لا يحتمل من تبلّد المشاعر.. قدراً لا يُحتمل على الإطلاق!
مثيرة للاهتمام صورة العالم، وهو يمشي بسيرورة التطوّر دون أيّ مبالاة. تاريخٌ صلبٌ من الإنجازات والابتكارات والفلسفات. لا يكترث للآلام التي تحدث.
الموت ليس عقبة في طريق هذا التاريخ، لم يكن كذلك قط.. العكس ربما هو الصحيح، الحياة هي التي كانت عقبة في طريق التطوّر في كثير من الأحيان! أقصد هنا حياة كثير من البسطاء، الذين باتوا عبئاً ثقيلاً على الإنتاج والفاعلية، وهم يرزحون تحت ركام الذلّ والفقر والتهميش؛ حيث بات العالم ينظر إليهم كزائدة دوديّة.. مهما حاولنا تجميل الصورة أو تجاهلها، هي كذلك تماماً، هؤلاء عالة على البشرية في نظر الأقوياء والملحقين أو المتشبّهين بهم.. وهؤلاء المتشبّهون صاروا عنصريّين بأقنعة شتّى: سياسيّون، أو رجالات دين، أو أقلام فكر، أو تنمية بشرية..
أقلامٌ احترفت ارتكاب الجريمة مع فنجان قهوة، في صبيحة كلّ يوم، وقبل أن تنطلق إلى أشغالها، تمارس تقريع المكلومين كلّ يوم، بدون كلل أو ملل، وطبعاً بدون وجدان..
ما أسهل أن تلقي باللائمة على الضعفاء، فهؤلاء لن يصلهم كلامك، ولن ينتبه غالبيتهم لوجودك أصلاً، فلديهم من الموت والجوع والفقر ما يشغلهم عنك. ما أسهل أن تعقد الندوات التي تتحدّث عن كسل شعوب، عن قابليتها للاستضعاف، عن ضعف إنتاجيتها، أو حتى عن حبّها لثقافة الموت، عن مورثات الكسل، والزهد والعجز، أو القتل، المستحكمة في ثقافتها.. ندوات كهذه تحتكر مسبقاً أوصاف التنوير، والتطوير والتجديد، وأصحابها يضعون أنفسهم فوق النقد..
ما أسهل مواجهة الضعيف، الغائب عن مجريات الأحداث، وتحميله كامل المسؤولية، وما أصعب مواجهة المجرمين الكبار!
يخيّل إليّ أحياناً بأنّ الحياة أسهل من أن نعقّدها بهذا الشكل.. لماذا لا نفكّر كما يفكّر الملحقون بالأقوياء؟ لماذا لا نسلك الطريق الأكثر راحة والأقل تكلفة، والذي قد يمنحنا الكثير من مشاعر الفوقية؟ لماذا لا نرى الوجه الآخر والجميل للحياة؟
فالضعفاء يموتون لأنّهم يستحقّون الموت، هذا ما ستقرؤه بين سطور الكثيرين تلميحاً أو تصريحاً؛ فالضعيف يعاني من قابلية الاستضعاف، العلّة هنا محض ذاتية، وهو بضعفه هذا المسؤول الأول عن استدراج غرائز القتل عند الأقوى..
لا شيء يدعو إلى القلق كثيراً، فالقتل سينتهي تلقائياً حين يتوقّف الضعيف عن استدراج القاتل، حين يتوقف عن كونه قابلاً للاستضعاف والاستباحة؛ أي حين يتخلص من قابليّته لأن يكون مقتولاً. عليه أن يتخلّص إذاً من عشقه لأن يكون مقتولاً، أو فقيراً، أو واقعاً تحت الاستبداد أو الاحتلال..
ما أسهل ذلك التفسير البارد للأحداث.. يقولون إنّ هذا هو صوت العقل المجرّد، لكنّ التفسير البارد في حقيقة الأمر لا يمت إلى العقل بصلة، هذا ما يحاولون دائماً إيهامنا به، لكنه لم يكن صحيحاً قط. العقل ليس بارداً، ولم يكن بارداً قط. التفسير البارد هو تفسير القوي، أو تفسير كل الملحقين به، أي هي وجهة نظر الجاني في جميع الأحوال.. ولا يمكن للجاني أن يتعاطف مع الضحية أبداً، ولا يمكنك التنكّر للضحية إلا في حالة وحيدة: أن تكون في صفّ القوي الجاني.. هذه هي القضية باختصار شديد..
التاريخ هو حصيلة مجموعة من التحولات والقضايا المتداخلة. لم يكن ثمّة قضية بيّنة ينفصل فيها طرفا الخير والشرّ إلى أبيض وأسود.. لم يتحقّق ذلك إلّا في زمن قلّة من الأنبياء. أمّا السواد الأعظم من الأحداث فكان متداخلاً، حتى لا تكاد ترى خيوطاً بيضاء وسوداء، وتكاد تضيع المسؤوليات والأخطاء بين الأطراف المتصارعة.
ولكن كان ثمّة إمكانية دائمة للتفريق ما بين جانٍ وضحية، كان يمكن الاعتماد دوماً على لغة الأرقام التي لا يمكن لها أن تكذب، فالضحية باختصار، وببساطة شديدة، هي التي ينتشر الموت في صفوفها أضعاف ما نراه في صفوف الآخرين، بغضّ النظر عن أخطاء الضحية وضعف خبرتها، وسهولة استجرارها وتوريطها في ارتكاب مزيد من الأخطاء، بما يشوّه صورتها ويضعف من عدالة قضيّتها.
لا توجد جماعة بشرية من غير أخطاء وتجاوزات، والمؤكد أنّ من يطلب ذلك لا يعرف الكثير عن التاريخ البشري، وعلى الأغلب سيكون معزولاً ومحاطاً بمجموعة من الأفكار والتصوّرات المغلقة التي لا تقبل الكثير من النقاش، هذا إن أحسنّا الظن. ولكن الحقيقة التي تصدمنا دوماً أنّ الإصرار على تفسير الأحداث تفسيراً منحازاً للجاني لا يعكس ضعفاً في قراءة الأحداث، بقدر ما يعكس قراراً مسبقاً بالاصطفاف مع حلف الأقوياء.. القتلة!..
كاتب سوري