عهد زرزور
“ملتفتٌ لا يصل”، لكني أحتاج الالتفات إلى الأمس لأثبت في موقعي الهشّ.
حيث ألتفت أجد سلسلة غير منتهية من الأحداث الممتعة والأليمة ثم الساكنة المكررة. أنبش ذاكرتي لأصادف لقطات أليفة تضعني أمام ذاتي القديمة المتماسكة. أختارها بعناية فيهدأ عقلي. على العودة أن تكون محددة المدة حتى لا أتوه بخطّ زمنيّ غير منته يحملني لأعماق التاريخ، وعليه يجب أن أضع تصوّراًً آنياً للأمس حتى لا أشعر بالوحدة هناك، تصوّراًً مجدولاً مع آمالي وتطلعاتي المحتملة!
فلنقل إني أعود من أجل الحاضر ومن أجل المستقبل معاً.
غالباً ما نشتهي العودة بشكل فردي كتجربة نفسية يصوغها تفاعلنا مع الحاضر، نهرب ونلجأ إلى زاويتنا الزمنية الآمنة ونسميها حنيناً. جسدنا وحيد في حاضرٍ مزدحم وأفكارنا مهاجرة إلى مواضع منتقاة من ذاكرتنا الخاصة وحكايتنا الشخصية. وكما نلتفت فرادى، نلتفت مجموعين كتجربة اجتماعية تشكلّها أحداث مُتقاسمة وشاملة، كما كان رحيل المخرج السوري (حاتم علي) حدثاً ناقلاً؛ حيث عدنا إلى الأمس جماعة كبيرة؛ أخذتنا يدٌ واحدةٌ هائلة وأدارت وجهنا إلى الخلف، وجهنا الجمعي أدير إلى الأمس المشترك. وضعنا النبأ الحزين في مدة زمنية مررنا بها وعشناها؛ ذات المدة التي صوّر فيها المخرج حكاياته التلفزيونية، لنعود ونزورها مرة أخرى، نربّت على كتف ما فات ومن فات. قد يبدو الحديث عن الحنين أو النوستالجيا كلاماً رومنسياً، لكنه يبدو لي سؤالاً سوسيولوجياً ملحـّاً؛ كيف عدنا جميعنا دون وعي، واتخذنا من الحدث سفينة توق إلى ما لا يعود؟
وحدة أقل..
تبدو تجاربنا التي نعيش مدعاة لاسترداد ما مضى والحنين إليه. في ماضٍ ما تشاركنا كسوريين زمناً واحداً ومكاناً وأحداثاً كثيرة وموارد. وبما أن الماضي منتهٍ بتجربة جمعية قاسية، يصبح ما بعده حاضرنا المعلّق، سواء كان في المنفى القسري أو في بلد لم تعد صالحة للعيش. التجربة الأقسى كانت فعل النفي الذي يشير إلى التنحية والإبعاد، وإلى إدخال أداة نفي على جملة تجربتنا. المنفيّ؛ منفيّ الوجود أي كأنه لم يكن. بهذه الصورة الجماعية القسرية حُرمنا من البلاد وتفرّقنا فرادى في كل مكان، ليقتضي ذلك تعلّم لغات وثقافات وعادات جديدة تتطلّب جهداً وصبراً وعمراً مضافاً وربما عمراً آخر.
يبدو اللجوء في بعض الأحيان انتصاراً ونجاة، لكنه بالمقابل خيبة أمل وذنب ووحشة. في اللجوء، نعيش حداداً مستمراً سببه النفي والنقصان، ليس حداداً بمعنى درامي يكسينا السواد، لكن الحداد يختبئ خلف كل استدعاءٍ محتمل للذاكرة، كما نفعل حينما نستدعي وجه من نشتاق. في هذا السياق، ينقص السوريين زمان ومكان.
ضجّ ما بعد الماضي بالنقصان، فقدنا ذاتيتنا وتواصلنا الطبيعي مع الناس والأشياء، لغتنا بدأت تضمر وخسرنا الثقة بالتاريخ والإحاطة بالخبر، أورثت هذه السلسلة تناقضاً كبيراً بين ما عشنا من ألفة ونعايش من غربة. حتى إن هذه البلدان الآمنة لم تستطع ترميم أرواحنا، بل لا زلنا نشعر بالتوجس من ذواتنا الجديدة والخوف من الآني والآتي. لأن أغلبنا يعيش في أماكن غير مضيافة ومتطلّبة.
باتت العودة إلى أمسنا الأليف حلّاً متاحاً لعبء الوحدة. نحنّ سوياً ونعود إلى ماضٍ جربناه لنطمئن أنفسنا أنها لم تتغير، وأنها منتمية إلى مَعشَر كما كانت عليه في ذلك الوقت؛ حين عمرت النار المدفأة فتحلّقنا نكتب فروضنا المدرسية، لا خشية أبعد من خشية الأستاذ. نوفّر بهذا الحنين إحساس الانتماء والكثرة. في الغرفة ذاتها اعتادت العائلة الاجتماع حول رائحة طبق بيتي، لا يمكن لشيء أن يفصل تداخل الضحكات مع صوت الملاعق حتى الطارق الغريب، يبدو المشهد مزدحماً وأليفاً لشخص كانت أكبر آماله التسلل خارج الضجة ليعيش وحده، يبدو المشهد مكرراً لولا صوت الضحكات البعيدة، ولولا أنها حفرت للأبد في عمق الذاكرة. ننظر في موائد المنفى لنطل على الوحدة ونغمض أعيننا لنتذكّر الصوت المندمج. هكذا نشعر بوحدة أقل وننتمي بطريقة ما إلى عالم مزدحمٍ ماض، خال من مكاتب العمل واللغات والبحار والدماء.
تمثال..
تشكّل المائدة مع غيرها من لقطات الذاكرة المنتقاة، إرثاً اجتماعياً مشتركاً. لا يقتصر الأمر على تذكّر الماضي البيوغرافي فحسب، بل استحضار الماضي الجماعي والذي يأخذ شكلاً مثالياً من أشكال التذكّر فتستثار مشاعر الارتباط بالأحداث البعيدة لنصبح في اتصال عاطفي مع المجموعة. تمر تجارب مثل معسكر الفتوة أو انقطاع الكهرباء أو برامج التلفاز ومظاهر الأعياد وتجارب اتفقنا على ممارسة تفاصيلها بشكل متطابق ولا واعٍ، وربما كانت بعضها تجارب أليمة، لكن بكل غرابة ننحي تدافع الحافلة وتلاصق الأجساد وتلوث الطرقات ومطباتها لنمكث في ألفتها، نعزّي النفس أنها بلاد أليفة وبلاد المنفى بلا روح. كل هذا يحصل كحيلة هروب من دورنا الجديد في سياقات الغربة، نضفي على الذاكرة رؤية رومنسية وانتقائية، لنجد أنفسنا جميعا نركب حافلة العودة الرمزية. لكن هل سألنا أنفسنا إن كنا حقاً نرغب بالعودة الجسدية؟
يمكن أن يكون مفهوم (الإرث الثقافي) مفيدًا في فهم أفضل لمنابع الذاكرة الجماعية أو “الذاكرة الاجتماعية” بتعبير عالم الاجتماع الأمريكي فريد ديفيس. مع مرور الوقت، تظهر قيمة الإرث حيث لم نتبين أهمية أنماط حياتنا السابقة أو عادتنا إلا بعد رحيل أجيال سبقتنا، وفي المقابل لم ننتبه لأعمال فنية وثقافية إلا بعد رحيل أصحابها. تنتقل من ممكنٍ إلى تذكار ليحمّلها الوقت رمزاً ومعنى ويجعلها قُدساً.
دعونا هذه المرة نعود أبعد من تاريخنا القريب لنرى في التماثيل صورة جليّة عن أهمية الوقت في تقييم الإرث الثقافي، فلولا مرور السنين لما صوّر التمثال الخلود، ولولا المتاحف ومجموع الزائرين لما قُدّس. قد نكون في حالتنا السورية حطمَنا تماثيل حافظ الأسد، في إلغاء رمزي لفترة زمنية قسرية من الاستبداد، فعل التحطيم أشبع الحساسية تجاه الزمن واحتمالية سكونه أو خلوده. لكن كان الفعل بالنهاية مسألة اختيار اجتماعي. إذاً، يمثّل التراث ما يختاره المجتمع من الماضي لتعزيزه وإبرازه في الوقت الحاضر أو إلغائه. لكن بعد مرور زمن علينا كسوريين لا زلنا نلتفت إلى ما يشبهنا من إرثنا الجمعي، نستحضره في سؤالنا الهوياتي، ورغم فقر وإشكالية مجالنا الثقافي إلا أننا مع كل فقد لوجه نرى فيه وجهنا ومرآتنا، نحزن، ونلتفت بالضرورة إلى مجموع الذكريات التي صاغها معنا ثم تركها لنا كقيمة. سنتذكر سهرات تلفاز مرّت في مرحلة من حياتنا أو أغان مشتركة كان تتردّد في الطرقات، وأحياناً نحنّ إلى مذيع غليظ أو إعلان مستفز أو بوظة سيئة الطعم لنخبر أنفسنا أننا خالدون هنا مع الذاكرة، موجودون، وأننا في وحدتنا كَثرة.
نجاة وعودة..
إن كنا نلتفت للأمس لأننا في حاضرنا وحيدون ومتعبون فنجد هناك صدى لأيامنا وخيالات تماسكنا، ونجد جماعتنا وإرثنا، فنحن إذاً نرسم وهماً وظلاً. لكن بعقلانية أكثر سنرى أن هناك بنى تكمن خلف التخيّل تؤثر على حضورنا الخاص وعلى تقدّمنا في الزمن. كثير منا سيختار عدم العودة الجسدية للبلاد أو يرفضها بسبب الأذى الجسدي والنفسي الذي لحق به وبسبب انعدام سبل الأمان، لكن ستستمر ظلال العودة الانتقائية في حياكة نفسها استمراراً لتاريخنا الشخصي والجمعي في حنين مستمر وتدفق لا إرادي للنجاة. حين تنعدم السبل تبقى ذاكرتنا وسيلة وحيدة للتعامل مع سنوات الخوف والحرمان ونلجأ للذاكرة كشوق للتغيّر وحُسن المصير. ومع ذلك من حق الذين تعبوا أن يختاروا الالتفات للأمس أو محوه كأنه ما كان، وأن يبذلوا جهداً هائلاً للنسيان.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج