مجلة طلعنا عالحرية

“الحملة نجحت، لكن الطفلين ماتا”!

طلعنا عالحرية – مكتب غازي عينتاب

في 23 تموز/يوليو 2016 في مشفى الزهراء في الغوطة الشرقية، وفي أثناء عملية ولادة توأم، واجهت الطبيبة النسائية صعوبة في إتمام العملية الولادة، فطلبت المساعدة من مدير المشفى الدكتور بكر أبو إبراهيم أخصائي الجراحة العامة،  مدير المكتب الطبي الموحّد.

قام الدكتور بكر بمساعدة طاقم المشفى بإجراء عملية قيصرية، وهنا كانت المفاجأة..

كان الطفلان المولودان ملتصقين معاً؛ وبسبب ضعف الإمكانيات وكثرة الاستعمال، لم تستطع أجهزة الإيكو الموجودة في الغوطة الشرقية اكتشاف حالة الالتصاق قبل الولادة.

يقول الدكتور بكر واصفاً حالتهما الصحية: “الطفلان كانا يعانيان من انشقاق الشفة وقبة الحنك.. وظاهرياً كانا بحالة حيوية جيدة، وحتى لم يكن هناك حاجة لوضعهما في الحواضن”، ويتابع: “..الحالة جداً نادرة ولا توجد إمكانيات لمعالجة الوضع في الغوطة الشرقية المحاصرة وحتى في سوريا”.

في البداية، تم التكتّم على الخبر إعلامياً، وتم العمل على محورين:

المحور الأول: تم إبلاغ الهلال الأحمر العربي السوري- فرع دمشق عن طريق شعبة دوما يوم 24 تموز/ يوليو 2016 عن وجود الحالة وضرورة إجلائها إلى دمشق لترتيب سفر الطفلين مع أمهما إلى خارج سوريا، بهدف إجراء الجراحة الخاصة بفصل الطفلين عن بعضهما.

المحور الثاني: هو إخراج الطفلين إلى برزة عن طريق الأنفاق لتهريبهما إلى دمشق. لم يكن هناك إمكانية للوصول إلى دمشق بالنسبة للطفلين بسبب عدم وجود مستشفى من الممكن أن تستقبلهما بدون أوراق ثبوتية أو معرفة مكان الولادة، بالإضافة إلى أن مشفى الأطفال بدمشق تذرعت بعدم وجود إمكانية لاسقبال الحالة، ورفضت ذلك حتى كفكرة. علماً أنه في حي برزة لا يوجد جهاز طبقي محوري أو أي جهاز يسمح بمعرفة ما هو مشترك بين الطفلين، بالإضافة إلى عدم وجود القدرة الطبية على رعايتهما.

لم يستطع الهلال الأحمر العربي السوري نقلهما إلى دمشق. وبعد فشل عملية إدخال الطفلين إلى مناطق سيطرة النظام في دمشق بالتهريب، بقيا في الغوطة الشرقية، وتم فحصهما مجدداً وعمل إيكو بطن- طبقي محوري وإيكو قلب، و”تبيّن أنهما يملكان قلبين بغلاف تامور واحد، وهو الغشاء المحيط بالقلب” حسب وصف الدكتور بكر الذي يتابع: “كان هناك احتمالية وجود فتحة بين البطينين، وتحتاج إلى طبقي محوري متعدد الشرائح للتأكد من فصل القلبين بشكل كامل، وهذا لا يتوفر في الغوطة الشرقية بسبب الحصار”.

في 7 آب/ أغسطس تواصل د. بكر مع الدكتور محمد كتوب مسؤول المناصرة في مؤسسة سامزSyrian American Medical Society. يقول د. محمد: “عادةً الشباب في الغوطة يطلبون معدات أو مساعدات أخرى، ولكن هذه المرة أرسلت إلي الصورة وأصابتني المفاجأة، وخاصة عندما أخبرني د. بكر أن التوأم ولد عندنا” يتابع د. محمد: “وعدت الدكتور بكر أننا سنتواصل مع كل من يستطيع تقديم المساعدة، وأًنهيت المكالمة بعد أن أخذت منه المعلومات. وبدأت تبنى لدي القصة وكيف نستطيع التأثير بهذا الموضوع لمساعدة الطفلين”.

تحتاج عملية الإخلاء الطبي إلى التعاون بين مكتبي الأوتشا (مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية) في دمشق وفي عينتاب من أجل إجراء عملية الإخلاء الطبي للطفلين من الغوطة الشرقية إلى دمشق ومن ثم إلى خارج البلاد. يقول د. محمد: “ما كان عندنا أي رؤية في تلك اللحظة إلا إخراجهما من المنطقة المحاصرة. ثم نقوم بالتواصل مع مشفى لتأمين علاج من هذا النوع، بالإضافة إلى التواصل مع مانح يستطيع دفع التكاليف، وهناك مفاصل كثيرة يجب العمل عليها”. يردف د. محمد: “لم تكن الحالة الأولى لطلب عملية إخلاء طبي من الغوطة الشرقية إلى دمشق. كان هناك حالة مماثلة في 2013 لطفل اسمه بسام عمره ثلاث سنوات يعاني من فشل كبدي. حاولنا إخلاءه إلى مكان يحافظ على حياته ريثما نجد متبرعاً من أجل إجراء عملية زراعة الكبد. لكننا فشلنا وقتها ومات الطفل”.

في سوريا، يحتاج إخلاء طفل مريض من المناطق المحاصرة إلى مكان يتلقى فيه العلاج إلى موافقات أمنية متعددة، بالإضافة إلى تدخل الهلال الأحمر العربي السوري والمنظمات الدولية.

بعد إبلاغ سامز قامت بالتواصل مع كافة الفعاليات التي من الممكن أن تقوم بالمساعدة في عملية الإخلاء الطبي للطفلين مع والدتهما. قام الدكتور أحمد طرقجي- رئيس مؤسسة سامز بإرسال التقارير الطبية التي قام بها الأطباء في الغوطة الشرقية.

في 9 آب/ أغسطس 2016 تمّ اتخاذ القرار ببدء حملة على مواقع التواصل الاجتماعي، بعد أن فشلت جميع الجهود من أجل إخراج الطفلين. يقوم د. محمد: “من الممكن أن لا تنجح الحملة، ولكن هذا سيلفت النظر لقضية كل الأطفال المحاصرين ولمن هم بحاجة إلى إخلاء طبي”.

أطلقت أول رسالة على مواقع التواصل الاجتماعي يوم 10 آب/ أغسطس الساعة الثانية والنصف صباحاً. وذلك بالتعاون مع سيريا كامبين The Syria Campaign. وخلال عدة ساعات كان هناك درجة كبيرة من التفاعل مع قصة الطفلين.

تم إرسال رسائل إلى كل الأشخاص والجهات العاملة في المجال الإنساني، وبدأت الحملة تستقبل عروضاً بالمساعدة. وتم مخاطبة الأوتشا في غازي عينتاب مجدداً ومنظمة الصحة العالمية.

بدايةً، وصلت عروض كثيرة بالمساعدة المادية، ولكن المشكلة لم تكن بتوفر المال، وإنما بالحصول على الموافقة من النظام السوري لنقل الطفلين خارج الغوطة الشرقية إلى مكان يتلقيان فيه العلاج.

في 11 آب/ أغسطس حصل الهلال الأحمر العربي السوري على موافقة من النظام تسمح بإخلاء الطفلين من الغوطة الشرقية. وصل الهلال الأحمر العربي السوري- فرع دمشق إلى آخر حاجز للنظام من أجل استلام الطفلين من شعبة دوما، ولكن الحاجز لم يسمح لهم بالدخول إلى الغوطة.

وفي اليوم التالي دخلت سيارة الهلال الأحمر وقامت بعملية الإخلاء الطبي لنورس ومعاذ بمرافقة أمهما باتجاه دمشق.

يقول الدكتور محمد: “كان في تلك الأثناء يتواصل معنا كل من منظمة الصحة العالمية والأوتشا وفريق العمل الإنساني التابع للمجموعة الدولية لدعم سوريا وآخرين”.

أبلغت منظمة الصحة العالمية مؤسسة سامز بأن مشفى الأطفال في جامعة دمشق رفض استقبال الطفلين بحجة أن المشفى ممتلئ. ويتابع الدكتور بكر: “..وهناك تم اقتراح أن يتم تحويلهما إلى مشفى خاص على نفقة الهلال الأحمر، فنُقلا إلى مشفى هشام سنان في دمشق، ريثما يتم استخراج أوراقهما الثبوتية وجوازات السفر والموافقات الأمنية”.

بعد أن وصل نورس ومعاذ مع أمهما إلى مشفى هشام سنان بقي تسجيل الطفلين في السجلاّت الرسمية واستخراج جوازي سفر لهم. ومن المعروف أن هذه العملية من الممكن أن تأخذ ساعات قليلة إذا كان النظام جدياً في إنقاذ حياة الطفلين.

طلبت سامز من جميع مؤسسات الأمم المتحدة ذات العلاقة أن تطلب من النظام التعجيل بالإجراءات. وبدأ العمل على إيجاد مشفى من أجل استقبال الطفلين. يقول الدكتور محمد: “يومياً على الأقل كنت استقبل عشرة إيميلات فيها عروض للمساعدة. منهم الكثير من لم يسمع عما يجري في سوريا وعن وجود مناطق محاصرة. ولكن الجميع كان مهتماً بأن هناك روحين بحاجة لإنقاذ”.

تواصلت الخارجية الفرنسية والخارجية الأميركية، وعرضوا المساعدة بما فيها وثائق السفر أو ما ينوب عنها عند وصول معاذ ونورس إلى بيروت. كما تواصلت وزارة الصحة السعودية من خلال منظمة سيما (الرابطة الطبية للمغتربين السوريين) وعرض أيضاً مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية أن الطفلين سيكونان بضيافة الملك.

الهلال الأحمر في دمشق أخبر سامز أن الطفلين لديهما قلبين (مما أكد صحة التشخيص الطبي الذي تم في الغوطة الشرقية) وأن لديهما دورتين دمويتين مكتملتين، مما يعني إمكانية فصلهما. بالإضافة لتفاصيل طبية أخرى سبق وتم معالجتها عند أطفال عانوا من نفس الحالة واستمرت حياتهم طبيعية. كان الكلام شفوياً ولم يقبل الهلال الأحمر أن يرسل أي تقارير طبية مكتوبة.

تم إرسال رسالة رسمية بتاريخ 16 آب/ أغسطس من سامز إلى مكتب أوتشا في غازي عينتاب تفيد بأن سامز مستعدة لتوفير كافة المستلزمات، وتحوي أيضاً العروض التي تلقتها سامز من أجل الطفلين، والتي تشمل تغطية كافة المصاريف والإجراءات. وطُلب أن تصل هذه العروض إلى الهلال الأحمر العربي السوري، فإذا كان يعمل على خطة علاج أخرى، يعرف بوجود الخطة البديلة.

مع العلم أن كل من الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية عرضتا استقبال الطفلين حتى بدون وثائق سفر. وشمل العرض أيضاً توفير طائرة من أجل الإخلاء الطبي ومرافقة طبية للأم تتقن العربية والإنكليزية.

تم إرسال الإيميل أيضاً إلى فريق العمل الإنساني التابع للمجموعة الدولية لدعم سوريا ولمكتب ديمستورا. وتمت إعادة إرسال الرسالة في 19 آب/أغسطس، والتأكيد على إيصال المعلومات للهلال الأحمر العربي السوري.

يقول د. محمد: “اهتمت مجموعة من الأطباء بالحدث. كل يوم يتصل أطباء وأشخاص ومؤسسات إنسانية حول العالم عارضين المساعدة. اتصل بنا طبيب سوداني أمريكي مقيم في قطر، واتصل طبيب برتغالي، وعدة مؤسسات في السعودية تواصلوا معنا. تواصلت معنا خارجيات عدة دول. حتى مهربين تواصلوا معنا من أجل إخلاء الطفلين خارج سوريا. ولكن الطفلين علقا في دمشق”.

في تلك الأثناء كانت هناك مفرزة أمنية موجودة في مشفى هشام سنان، وكانت الأم تحت الإقامة الجبرية بعد أن تم سحب هويتها، بالإضافة إلى عدم السماح لها برؤية طفليها نورس ومعاذ إلا في أوقات محددة.

يقول الدكتور بكر: “عند خروج الطفلين كانا بصحة جيدة وكانا يرضعان رضاعة الطبيعية. تم في دمشق فطامهما وعزلهما عن الأم”!

بعد ذلك تفاقمت عند الطفلين مشكلة قلبية فتم تحويلهما إلى مشفى الأطفال التابع لجامعة دمشق الذي استقبلهما باستشارة بسبب عدم توفر طبيب قلبية أطفال إلا في مشفى الأطفال. ومن ثم عادا إلى وضعهما السابق بعد أن تجاوزا المشكلة القلبية.

كان من المقرر أن سفر الطفلين مع الأم إلى إيطاليا سيكون يوم 25 آب/ أغسطس، ولكن في يوم 24 آب/ تموز صباحاً  قام الهلال الأحمر العربي السوري بإبلاغ د. محمد كتوب بأن الطفلين قضيا ليلة عصيبة وتم نقلهما للعناية المشددة، ومن ثم توفيا في الساعة التاسعة صباحاً. المشفى رفضت إعطاء أي مستند أو تقرير طبي عن سبب الوفاة”.

يقول د. محمد: “من 7 آب/ أغسطس وحتى 24 من ذات الشهر تعلقت بالأولاد بشكل كامل، موبايلي امتلأ بصورهما والتقارير الطبية الخاصة بهما. في هذا الشهر حكيت قصّتهم للإعلام وللناس المهتمين مئات المرات. اضطررت أن أوضح للناس أن مشكلتنا ليست بمساعدة مالية.. وفي بعض المرات اضطررت أن أعود بالقصة لخربشة أطفال درعا على حيطان مدرستهم”.

دفن الطفلين في مقبرة نجها بعد يوم من وفاتهما. وعادت الأم إلى الغوطة الشرقية تاركة ولديها خلفها. يقول الدكتور محمد: “حتى الآن لم نستطع الوصول إلى التحاليل والصور التي تمت في دمشق”. ثم يتابع: “لن ننسى معاذ ونورس .. هذه القصة تريك عجز المجتمع الإنساني أمام الرغبات السياسية”.

يقول الدكتور بكر:”الذي قتل ألف وسبعمئة مواطن سوري في ليلة الكيماوي في الغوطة الشرقية التي تصادف يوم 23 آب أيضاً، قادر على قتل طفلين في المشفى”.

الهلال الأحمر العربي السوري- فرع دمشق تباطأ بالاستجابة للحالة الإنسانية لإجراء الإخلاء، والتي هي أحد المهام الواجب العمل عليها. وأثبت عدم قدرته وفعاليته في التعامل مع هذه الحالات. وهو لم يبد استجابة لعروض من منظمات طبية وإنسانية أخرى للمساعدة مما أدى إلى وفاة الطفلين. وبالإضافة لعدة خروقات سابقة لأعضاء الهلال الأحمر العربي السوري – فرع دمشق فيما يخص العمل الإنساني والحياد، الأمر الذي يفتح باب التساؤل عن حقيقة وفعالية منظمة الهلال الأحمر العربي السوري كطرف محايد أم أنه منحاز لأحد طرفي النزاع والذي هو النظام السوري، ويعمل وفق تعليماته.

السؤال الآخر الذي تطرحه وفاة الطفلين، هل الحكومات والمؤسسات الدولية قادرة على تطبيق أي حل سياسي مع النظام السوري؟ وهي لم تستطع أن تضغط لإخراج طفلين سوريين عمرهما أقل من شهر من أجل حصولهما على مساعدة طبية؟

يقول د. محمد: “من بين تعليقات كثيرة تعبر عن التضامن بقي في ذهني اثنان: أحدهما قال إن التوأم كانا فسحة أمل في هذا الظلام الدامس، والثاني يقول: “الحملة نجحت، لكن الطفلين ماتا”!

Exit mobile version