في اللغة العربية تغلب كلمة “الخير” على الكثير من معايداتنا وتحياتنا وتمنياتنا في المناسبات وفي المواقف اليومية سواء. والخير كلمة نشير بها إلى المواسم الماطرة التي تعود بمحصول وفير، فلها دلالة اقتصادية كبيرة دون شك، فنحن بخير إذا كنا مكتفين اقتصادياً، والموسم خير إذا عاد بقمح يشبع البطون، لكن الاكتفاء الاقتصادي لا يكفي بالطبع وليس هو المعنى الوحيد للخير، فكثرة المال ووفرة الطعام مع غياب الصحة، وراحة البال، والاطمئنان والأمان ليست كافية. فالخير مفهوم عميق، ووفرة الخير بكل وجوهه هي مصدر استقرار المجتمع وازدهاره.
كان من السائد أن تعمل الحكومات على رفع سوية الدخل، وتطوير الصناعة، ودعم الإبداع التقني لتحقيق التنمية الشاملة، بالطبع كان ذلك يترافق بدعم التعليم وتطويره لأنه عماد تلك الأمور جميعا. لكن الزمن تغير وأتى من يجادل بأن تحقيق الازدهار في المجتمع لا يتم بتحقيق التنمية الاقتصادية وحسب، بل إن الازدهار، وأعود هنا إلى مفهوم الخير، أبعد من ذلك، فالمجتمع الذي يخلو من الحريات، والتسامح والفرص الاجتماعية لا يمكن له أن يحقق التنمية الكاملة والمستدامة التي توصله إلى الازدهار، حيث يعم الخير على الجميع.
أتى أماريتا صن العالم والفيلسوف الاقتصادي الهندي الشهير والأستاذ في جامعة أوكسفورد البريطانية والحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد بنظرية جديدة وسَّعت مفهوم التنمية إلى ما وراء النمو الاقتصادي ومؤشراته المعتادة، وجاء يقول بأن التنمية هي توسيع للحريات القائمة التي على الانسان أن يتمتع بها، وقال بأن توسيع الحريات يجب أن يكون مرتكزا أساسيا للتنمية وليس هدفا لها وحسب. وقال بأن تحقيق التنمية يتطلب التخلص مما يسميه اللا حريات وأوردها في مزدوجات مثيرة للاهتمام، كالفقر والاستبداد، والحرمان الاقتصادي والإقصاء الاجتماعي والمرافق العامة المتردية وغياب التسامح بين الناس، فهو يربط هذه المفردات في أزواج يراها متلازمة، فالتخلص من الفقر لا يتم بدون زوال الطغيان، والاكتفاء الاقتصادي لا يثمر دون توفر الفرص الاجتماعية للجميع.
ربط أمارتيا صن التنمية بالحريات على نحو لم يسبق التطرق إليه، وناقش في كتاب يعج بالأفكار الجديدة المدعومة بالتحليل العلمي لحقائق ومعطيات اقتصادية كيف أن الحرية هي أساس من أسس التنمية وليست هدفا نهائيا لها, وبذلك لا يمكن تحقيق التنمية المستدامة في أي مجتمع دون توفر خمسة أمور هامة هي, الحرية السياسية, المرافق الاقتصادية المتاحة للجميع, الفرص الاجتماعية, ضمانات الشفافية والأمن. ورأى أن على مؤسسات الدولة جميعا العمل نحو توسيع الحريات الفردية وتعزيزها، وفصَّل كيف تقوم كل منها بهذا الدور وفقا لوظيفتها الأساسية.
وعليه فإن الحريات هي اتساع الخيارات أمام أفراد المجتمع في الاعتقاد السياسي، والعمل، والحصول على الرعاية الصحية والوصول إلى الفرص الاقتصادية، ويرى صن بأن غياب الخيارات هو انعكاس للا حريات.
لا تستطيع الدول الشمولية التي تقوم على نموذج سياسي واقتصادي واجتماعي أحادي تحقيق التنمية والازدهار الذي تنشده الشعوب لنفسها، ولا تستطيع الصمود أمام ديناميكيات التغيير الحتمي. إن اتساع الحريات هو الباب الأوسع ليعم الخير.