مجلة طلعنا عالحرية

الجرابيع / لينة عطفة

في العاشرة صباحًا ومن بين غلالة الدموع التي سببتها أبخرة معجون الحلاقة، كانت العينان تتجهان صوب جهة القرقعة، غطاء البلّوعة يتحرك ويخرج كائن رماديّ، مسح أبو سامي دموعه بعجلة وفتحهما عن آخرهما، “جربوع!” صرخ أبو سامي “يا امرأة.. جربوع”.

ركضت كتلة القذارة الرمادية الجربوعية بالقرب من شحاطة أبوسامي، طاردها بقصبة ممسحة الماء، صعد الأطفال إلى التخت وبدؤوا الصراخ المحموم، أم سامي رمت كل ما يمكن رميه صوب كتلة الوسخ الراكضة لكن لم تصبها، اختبأ الجربوع تحت الغسالة اليدويّة، اقترب الزوجان من الغسالة بهدوء، همس أبو سامي لزوجته: “بسرعة أحضري ورقًا مبلّلاً بالكاز مع عيدان ثقاب” انسحبت أم سامي تكتيكيًّا وعادت مكلّلة بما طلب، بدأ الزوج بإشعال الورق ورميه تحت الغسالة، تصاعد الدخان والسعال ومن بين النيران وغمام الرائحة وفي غفلة من المختنقين ركض الجربوع هاربًا وطارده الزوجان بلا فائدة.

العرق يقطر من جبهتي الزوجين المسكينين، الأطفال هلعون، جوٌّ فريدٌ من النكد يملأ المكان، رمت الزوجة كل الطعام الذي كان في البيت، تداعيات الخوف من التيفوس والكوليرا و.. ملأت البيت، فقط الطفلة الصغيرة لم تكن خائفة من أيٍّ من تلك الأمراض، كانت خائفة من (الجَرْبَعَة) فبالنسبة لها؛ كل من يظفر الجربوع بلمسه يصبح جربوعًا.

لهاثٌ متقطّع، تحفّزٌ كامل، بعقة مدويّة من أم سامي: “تحت التخت!!” ركض الزوج بعتاده المكوّن من قصبة الممسحة وأسطوانة نيون مكسورة والورق المبلّل بالكاز مع عيدان الثقاب، لم تفده الحركشة بقصبة الممسحة ولا جلبة الأصوات، أشعل الورق ورماه تحت التخت ليخرج الجربوع من اللهب والدخان، لكن الأمر الذي فات المسكين أبو سامي هو القماش المهترئ المتدلي من أخشاب التخت والذي اشتعل لتشتعل معه فرشة الاسفنج، وقبل أن يمتدّ الحريق ليبتلع كل شيء، أطفأت أم سامي وأولادها النيران بأسطل الماء، أُطفئ الحريق ولا جثة للجربوع ولا أثر، لقد احترق التخت هباءً والجربوع يعيث قذارةً في مكان ما في البيت أو في مجارير البيت، فقد أبو سامي عقله، جحظت عيناه، تيبّس الدمع فيهما كمعجون الحلاقة المتيبّس على وجهه، شطف وجهه بالماء، غيّر ترتيب أثاث البيت، شحط الطاولة وألصقها بالحائط، جرّ خزانة الأحذية إلى وسط الغرفة، وضع الكراسي فوق بعضها أمام الباب رفع كل الأغطية إلى ظهر خزانة الملابس وترصّد مجيء الجربوع.

وضع كرسيًا أمام باب الحمام، وقف عليه بشموخ، ورفع يده الممسكة بأسطوانة النيون المكسور عاليًا، قميصه الداخليّ، بنطاله الفضفاض، شحاطته الفريدة، شعره المشعث، أسنانه البائسة، كرسي البلاستيك ويده المرفوعة بالسلاح البدائي، مشهد يذكرك بأن قلاعًا صمدت قرونًا في وجه التاريخ والأعداء، يدخلها المرء الآن بعدة قطع نقدية، أو ربما يدخلها دون أية رسوم، أبو سامي يختصر بؤس البشرية بمشهد تحديه للجربوع.

وبكامل المشهدية يصرخ وهو يرفع سلاحه عاليًا: “أيها الجربوع العاهر القذر، يا ابن المجارير العفنة، لن أسمح لقذارة مثلك أن تستمر بسرقة طعامي، لن أسمح لكتلة وسخ أن تلوّث عالمي وتشوّه بيتي، لن أسمح لك أن تحكمني بعد اليوم!”. وعند نهاية هذه الجملة صرخ الأطفال ووقفوا صفًا واحدًا وبدؤوا التصفيق والصفير وأم سامي أمسكت خاصرتها بيدٍ، ووضعت الأخرى على فمها وزغردت بنَفَسٍ وطبقة صوتية منقطعي النظير.

وبدأت معركة انتظار، انتظار ظهور الجربوع لتصفيته وتحرير البيت من سطوة قذارته. وفي الثانية صباحًا كان ثمة قرقعة في المطبخ، مشى أبو سامي على رؤوس أصابعه وأمام باب المطبخ ظهر رأس رمادي صغير وشاربان لامعان يتحركان بفضول وبلمح البصر خبط أبو سامي شحاطته على الرأس الرمادي لكن دون تحقيق إصابة، ركض الجربوع، ركض وراءه أبو سامي، نطّ الجربوع عن الطاولة تعثّر أبو سامي بالطاولة ووقع بدويٍّ أيقظ كل أهل البيت، وقف حانقًا بأنفه الراعف وحالته المزرية وصرخ: “أيها الجربوع، يا جربوع النحس، يا سافل، أنا قاتل الجرابيع أنا المنتصر!” وأجهش أبو سامي بنوبة ضحك هستيري، وعائلته ذاهلة أمام ما حدث.

لم ينم أبو سامي ليلتها، ولم تنم زوجته، الأطفال كانوا يستيقظون على نوبات ذعر وقد نزحوا إلى غرفة والديهم، في اليوم التالي كان البيت تمامًا في حالة عصيان مدني، لم يذهب أبو سامي إلى عمله، لم تطبخ أم سامي، لم يذهب الأطفال إلى مدارسهم، لا حراك ولا شيء، وجومٌ مطبِق مترافق مع قرقعة تصدر من بلاليع الصرف الصحي. في ظهيرة ذلك اليوم وفي غمرة القيظ خرج الجربوع من بالوعة الحمّام وتابع صوب الغرفة، لمحه الجميع، لم ينبس أحدهم بكلمة أو حركة، أبو سامي الممسك بأسطوانة النيون المكسور بقفزة واحدة طار في الهواء وهوى طاعنًا الجربوع ليقتله على الفور ويتدفق الدم النتن ساخنًا ويتصاعد منه بخارٌ أخير لحياة آثمة، تراجع الأطفال بقرف، قفز الزوجان بفخر، اختلطت دموع الفرح بدموع القرف، نظر أبو سامي إلى زوجته ثم إلى أطفاله وقال بنبرة المنتصر: “ها قد حررنا البيت من ذلك القذر، بيتنا الآن حر، سنعقّم البيت، سنعيد ترتيب الأثاث وننظم كل شيء، سنرتب أمورنا بأفضل ممّا كانت عليه، بيتنا حر، حر تمامًا” ولكن، صرخت أم سامي: “الجربوع النافق عليه بقعة سوداء، جربوعنا لم يكن يملك بقعًا وذيله ورقبته كانتا أطول”.

ارتجفت عظام أبي سامي، ماذا تقولين ؟! اقترب محملقًا، “يا ويلي هذا فعلاً غيره، كم جربوعًا يرتع في البيت؟!”

انهار أبو سامي وتكوّم على البلاط، نظر بأسى إلى زوجته وأطفاله، تمتم برعب: “جيش من الجرابيع، مافيا، تنظيم جربوعيٌّ ضخم يحاربنا، يسرق طعامنا، يقرض الثياب والأثاث، الجرابيع تأتينا من بيوت الجيران وتذهب من عندنا إلى الجيران، تنتقل بين المجارير والخزائن والغرف، تعيث قذارةً في كل شيء، تقطع الأسلاك وتقوّض كل شيء، تخرّب كل ما لا تستطيع التهامه الجرابيع رفعت شعارها الذي لا يقلّ قذارة عنها: (إما نحن الجرابيع أو نقوّض البيت على رؤوس ساكنيه) الجرابيع يا أم سامي، تنهبنا، تريد أن تحكمنا، تريد تهجيرنا وسحقنا”، انتفض أبو سامي، نهض، وبجنون أغلق كل الأبواب والنوافذ، سدّ كل المنافذ والثقوب، عانق أطفاله وزوجته، همس لهم: “لقد حاصرت الجرابيع وحاصرت نفسي وحاصرتكم، نحن الآن في حصار، في حرب، حربٍ مغلقة مفتوحة على الرعب لكن لن، ولن يحكمنا.. جربوع”.

Exit mobile version