Site icon مجلة طلعنا عالحرية

الثورة ووعي الحرية

1622_442468559168454_2074155904_nغالباً ما يتناهى إلى مسامعنا ذلك الجدل الشفاهي (النخبوي والشعبي) حول استحقاق شعوبنا للحرية، وهو جدل قديم حصل انتشاره بقوة بعد “الربيع العربي” ورؤية ما آلت إليه الثورات من عنف في سوريا وليبيا، أو من صعود الإسلاميين للحكم في مصر ثم انقلاب العسكر عليهم، وعودة الديكتاتورية بصيغة جديدة. لكن هذا الجدل بقي دون أن تتم مناقشته ومعالجته بشكل واف، مع أنه غالباً ما ينتهي باستنتاج عدم أهلية مجتمعاتنا للحرية كونها مجتمعات جاهلة وغير “واعية”. ونحن سنعيد هنا طرح السؤال و”نفككه” ونحاول الإجابة عليه: فهل من الضروري أن يكون الشعب “واعياً” حتى يستحق الحرية؟.

قبل الإجابة يجدر بنا توضيح بعض المسائل، هي أولاً، إن تناول “الوعي” ضمن تلك الاستنتاجات هو تناول سطحي غائم وغير محدد، يجمع؛ دون أن يدرك في مقصوده، عدة معان “للوعي” الجمعي بالحرية، غير متجانسة وليست من طبيعة واحدة، كالرشد الاجتماعي، والاخلاقيات الشكلية، والتربية الحسنة، والتحصيل العلمي العالي، والرقي الحضاري، إضافة إلى نزعة مضمرة تضيف إلى كل ما سبق الوضع المادي والاقتصادي الجيد التي تؤهل المرء أن يكون “واعياً” وراقياً ومتحضراً. فكيف يمكن، بعد هذا التقدير، لمجتمع جلّه من الفقراء “الغوغاء والحثالة”؛ على ما سمّاهم إعلام النظام، أن يكون مجتمعاً واعياً ويستحق الحرية؟.

نلاحظ ثانياً، أن ذلك الجانب المضمر في الحديث عن “الوعي” الاجتماعي كضرورة لاستحقاق الحرية، هو جانب نفسي مشبع بعقد النقص الحضارية والشخصية، ومليء بإدانة الذات الجمعية باعتبارها ذات متخلفة جوهرياً وغير جديرة بالحرية. وغالباً ما تجد القائلين والمهتمين بهذا النوع من ضرورة الوعي المسبقة لاستحقاق الحرية هم من أرباب الحداثة الغربية والمعتصمين بها، سواء كانوا من النخبة أم من العامة، لكن الملاحظ أيضاً أن هؤلاء بالجمع وبالمجمل ليسوا ممن يستبطنون الحداثة بالفعل والقول والسلوك الشخصي، بقدر ما هو استبطاناً لمظاهرها وشكلياتها، وليسوا ممن هم متماهين في العمق مع مبادئها المكوِّنة، ولا حتى من العارفين الجيدين بتاريخها وصراعاتها، بقدر ما هم من المتماهين بها كما يتماهى ضحية السلطة بالمتسلط، أو كما يتماهى العبد بالسيد لتصبح أخلاق السيد مثله الأعلى.

إنها الطريقة التي يتصور بها العبد أو العاجز المقدرة، الفكرة التي يكونها عنها. فالحداثة والحضارة الغربية بالمجمل تصبح هنا بمثابة المتسلط، أي الأقوى والأعرف والأهم والأجمل.. الخ، بينما نحن الأضعف والأخس والأبشع والأكثر تخلفاً، نحن رعاعهم.

ولا يفعل أولئك “الحداثويون” سوى الهروب النفسي، وأحياناً الفعلي، إلى هذا الغرب، أي الهروب من تخلفنا نحو حداثتهم، الهروب نحو الأقوى والانتساب إليه. وكما يَفتَرِض الأضعف أن الأقوى والمتسلط ينظر إليه، يرى نفسه. ولذلك فهو عندما يرى ذاته بعين الأقوى سيجد أنه نكرة وضعيف، فيستبطن شعور الضعف ويدين نفسه بناء على ذلك، لكنه لا يلبث أن ينسحب من هذا الشعور الذي لا يطاق نحو التماهي بالأقوى، وبالتالي يشعر شعوراً كاذباً بالقوة التي ليست ملكه. وضمن هذه الآلية نجد أنه عوضاً أن يعمل من يرى نفسه على هذا الشكل، على تقوية ذاته وتمتين ثقته بنفسه، يهرب منها دون أن يواجهها، ودون أن يدرك أن وقوفه مع الأقوى لا يجعل منه قوياً بأي شكل كان.

إن الشائع في ثقافتنا عند من يقودون فكرة ربط مطلب الحرية بمطلب “المجتمع الواعي”، لا يعبر في شيوعه إلا عن الرغبة بتأبيد الواقع الراهن ومعاداة التغيير ومعاداة الثورات، مع إسباغ التخلف كسمة جوهرية لمجتمعاتنا لا فكاك منها، ولذلك لم يبخل مثقف وشاعر كبير كأدونيس، على سبيل المثال لا الحصر، بالقول: إنه علينا تغيير المجتمع والنظام الاجتماعي قبل تغيير النظام.
لكن تحليلينا المعتمد على الأسس الواردة أعلاه لم يفنّد إلا جانباً داخلياً واحداً من جوانب ظاهرة ربط الحرية بوعي المجتمع، أما الجانب الآخر لتلك الظاهرة يبدو في كون المتحدثين بها، هم غالباً أناس بارانوئيين (من بارانويا)، أي محكومين بثنائية الاضطهاد والتعالي، الشعور العميق بالاضطهاد المقترن بشعور مواز ومصاحب بالتفوق، لكن شعور الاضطهاد هو شعور زائف مبني على كره الذات ونفيها وعدم تقبّلها، أما التعالي فهو تعالي الوضيع على ما سماه محمود درويش بلمحة نثرية ثاقبة.
غالباً ما يظهر هؤلاء بمظهر المتواضع والمحب للضعفاء والمحرومين والبسطاء، لكن ذلك التواضع قادم في العمق من الوضاعة وليس من الامتلاء والقوة والفيض، وتلك المحبة ممزوجة غالباً بالاحتقار والارتكاس، فيكفي أن يتحول أحد أولئك البسطاء والمحرومين إلى ثائر ومتمرد أو يرفع صوته عالياً ضد حرمانه ذاته، كي يظهر التعالي ويبرز الاحتقار، وكي يتحول تواضع المتعالي إلى وضاعة في السلوك وانحطاطاً في التعامل.

بالعودة إلى سؤالنا السابق حول ضرورة اقتران الوعي بالحرية، وهل فعلاً هناك اقتران منطقي وضروري بين الوعي والحرية، أو هل فعلاً يتحتم على المجتمع أن يكون مجتمعاً “واعياً” لكي يستحق الحرية؟.

إن دعاة الوعي الاجتماعي والجمعي بالحرية، يقلبون الصورة رأساً على عقب من حيث الأولويات، فعندما يعلنون عن أسبقية التغيير والتحرير الاجتماعي على تغيير السلطة، والتحرر من أغلالها، فهم يضعون العربة أمام الحصان، ثم يطلبون منها السير على سكة التاريخ، وهذا هو بالضبط الطلب المستحيل في حالتنا وحالة شعوبنا.

فمن دون تحرير السلطة من سلطتها المطلقة على الشعوب، ومن دون تغييرها والثورة عليها، بوصفها العائق الأول والأعقد والأهم أمام التحرر المجتمعي وحرية المجتمعات، لن تتمكن مجتمعاتنا من السير على سكة التاريخ. وطالما أن المجتمعات لا تملك خياراتها بتحديد السلطة، أي وضعها وإزالتها وتغييرها وتحديد صلاحياتها بما تراه مناسباً، فإنها لن تستطيع تطوير ذاتها أو تحرير وعيها العام بالحرية. إلا على طريقة أصحاب نظرية الوعي.

ليس بالضرورة إذاً أن يكون المجتمع واعياً كي يستحق الحرية، بل إن الحرية هي الشرط “الطبيعي” والأساسي لوعيه، فلا وعي اجتماعي ناضج دون حرية، حيث إن الحرية هي المناخ الأنسب لنمو الوعي الفردي والاجتماعي وتطوره عبر التاريخ.

Exit mobile version