في مقابلة له مع احدى الصحف التركية يشكر المفكر السوري صادق العظم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش” كونها أخرجت الرئيس الأمريكي من حال الإنكار التي تعاطى بها مع الحدث السوري، وجعلت أوباما يتخذ قراراً (وهو قليلاً ما يفعل) بأن يتدخل عسكرياً ضد الإرهاب. ولكن يبدو أن صلاحية الشكر لم تكن قابلة للدوام طويلاً أمام “أيديولوجيا العجز” التي وسمت دائماً قرارات أوباما بالتناقض الذاتي، بحيث تجد ضمن القرار ذاته ما يعطله على نحو لا ينتهي، وهي لن تفلح في مواجهة الإرهاب الثاني، بأكثر من فلاحها في مواجهة الإرهاب الأول أيام الكيماوي قبل عام ونيف، بل غالباً ما يصح القول إن مواجهة الإرهاب على الطريقة الأوبامية العاجزة، دخلت الحيز التكويني للعبة الإرهاب، وانتقلت من وضع المواجهة إلى وضع الحليف الموضوعي للإرهاب الأول ممثلاً بالنظام، والإرهاب الثاني الذي تمثله داعش، ليصبح التدخل العسكري للتحالف هو النوع الثالث، ويشكل مع إرهاب النظام وإرهاب داعش تحالفاً ثلاثياً ضد سوريا والشعب السوري.
عندما كتبت صحيفة “الوطن” السورية أن التحالف يدخل في خندق واحد مع الجيش العربي السوري ضد العصابات الإرهابية المسلحة، بدا العنوان للناظر العاقل عنواناً سوريالياً، فرأس المؤامرة الكونية الذي مثلته أمريكا و”عربان” الخليج دخلوا في خندق واحد مع النظام الذي يتآمرون هم أنفسهم عليه. لكن الواقع السوري الذي يتحدى السوريالية ويبزّ أكثر اشكالها لاعقلانية منذ ثلاثة أعوام ونصف، لم يعد يرى في تلك السوريالية السياسية أمراً غريباً عليه.
في الحقيقة ليس التصرف الذي سوّقته أو رعته أو مررته أمريكا الأوبامية؛ راعية النظام العالمي الجديد، وبات يَسِمُ مجمل الدول المتدخلة في الشأن السوري، تصرفاً يليق بالدول بقدر ما هو تصرف ميلشيوي لا يختلف عن أي ميليشيا معادية تكوينياً لمفهوم الدولة باعتبارها كياناً عقلانياً، فالدولة؛ سواء كانت دولة أمة كما هو حال أمريكا، أو دولة سلطة (regime) كما هو حال إيران، باتت تتصرف بشكل علني مناف للمحرز الإنساني والسياسي، على أنها دولة في الداخل ونحو الداخل مقابل تصرفها ميليشوياً في الخارج ونحو خارجها، أما في الحالة السورية فقد بات تصرف الدولة ميليشيوياً نحو الداخل والخارج معاً، فبعد أن فقدت احتكار السلاح والعنف والسلطة والأرض، أصبحت جزءاً من منظومة ميليشوية اقليمية ودولية تتقاتل على أرض سورية.
“الشعب” السوري “الحالي” بوصفه شعباً قابلاً بالقوة لإحراز الدولة الأمة بالفعل، هو الخاسر الأكبر أمام العدوان الإرهابي الثلاثي، فمن لا يموت شهيداً للثورة، يموت شهيداً للنظام، ومن لم ينزح بعد هرباً من عنف النظام والميليشيات العاملة معه، أو هرباً من “داعش” وإرهابها الإسلامي، يحاول الهرب من خدمة الجيش، أو الهرب من العسر الحياتي والفقر المدقع الذي يعيشه من تبقى من السوريين في سوريا، فحالة الاصطفاء المقلوبة التي تجعل من الارتقاء للأنذل والأكثر اجراماً، والبقاء للقوة العارية ومنفذيها، تترك معظم السوريين الذين لا يريدون الحرب في حالة صمت أسود، هو صدى الصمت العالمي عن الظلم الذي تعرض له السوريون، وصدى الموت الذي يحاصر السوريون أينما ولّوا وجوههم داخل البلد أم خارجه.
لم تعد الثورة السورية ثورة “الشعب” السوري، بل أصبحت ثورة مستقلة عن هذا الشعب، بمعنى أن فعل الإرادة الذي كان أساسياً في شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”، لم يعد فعلاً إرادوياً يمتلكه ويحتكره الشعب، بل أصبح فعلاً تاريخياً وبيد التاريخ، موزعاً بين القوى الاقليمية والدولية الحاضرة في هذا التاريخ، وبالتالي فإن الثورة الباقية والتي غيرت الشعب والنظام والدولة، هي باقية ضد إرادة الجميع وليست على هوى أحد ممن قام بها أو قام ضدها، لأنها أصبحت ملك التاريخ، حيث إنها غيرت موضوعياً؛ ودون رجعة، وجه سوريا السابق، دون أن يتحدد بعد وجهها القادم من الموت.
ماهر مسعود، كاتب وباحث سوري، ماجستير في الفلسفة الغربية.