ثقافة

الثورة ليست صورة ثابتة في الرأس أيها الشاعر الكبير

الشاعر السوري أدونيس

الشاعر السوري “الكبير” علي أحمد سعيد إسبر، والمعروف كناية بالأسطورة “أدونيس”، والذي قال في حديث لوكالة فرانس برس الفرنسية على هامش معرض غوتنبرغ للكتاب، وبكل ثقة، “الشعر لا يمكنه ذبح طفل أو ممارسة القتل أو تهديم المساجد”، لكنه نسي أو تناسى أن الكلمة في تأسيسها المعرفي وببعدها الفكري والوجداني أشد فتكاً من وابل الرصاص والمدافع. ففي منتصف عام 2014، حسب الأنبار الكويتية، دعا إلى تغيير المجتمع جذرياً لا النظام، فـ”عَلمانيته” لم تقده للفصل بين تغيير المجتمع وبين تغيير منظومته المعرفية بالتدريج والتراكم المجتمعي، وأن شرط بدايتها حرية التعبير وإطلاق كوامن المجتمع الفعلية وزجها في معادلة الدولة الوطنية، لا تحت وصاية وهيمنة القوى الأمنية وعقائدية البعث السياسية. وأيضاً لم يقده شعره للتعبير التضامني مع المجازر المرتكبة في سوريا ولا مع مشرديها في شتات الأرض! جون لوك، الذي ناصر الثورة الانكليزية، وهرب أمنياً على أساسها، أسس مفهومياً للوظيفة العليا للدولة في حماية الثروة والحرية، وأن على الشعب أن يغير الحكومة، و “عَلمانية” أدونيس الشعرية لم ترَ ذلك أبداً!

لا تكاد تمر فترة زمنية إلا ويطالعنا بعض “العَلمانيين” أو”اليساريين” بمقولاتهم المنحوتة كلامياً، الباردة روحاً، ولربما القاتلة معنىً، خاصة فيما يتعلق بتقييمهم لمجريات ثورات الربيع العربي والثورة السورية خاصة. وليت فكر ما كان يسمى بـ”التقدمي”، اتقد بجملة مفاهيمية محدثة في العالم السياسي والفكري تحقق أحد شرطيه على الأقل: التأسيس المفهومي، والنقد المعرفي الذاتي الذي كون صورة مسبقة عن عالم اليوم ومتغيراته المتسارعة. فكما غيره من “اليساريين” أو”العَلمانيين” العرب، يأخذ أدونيس على الثورات أنها شوهت جماليتها وحقيقتها، ولا يمكنه أن يرى الثورة تخرج من مظالم الناس المسحوقين ولا من بساطة مطامحهم في الحياة الحرة الكريمة، دون الخضوع لمرجعيات قهرية وآليات هيمنة عقائدية سياسية واقتصادية تحكم وتحصي أنفاسهم.

فالثابت “العَلماني” لديه منعه من رؤية متحول وطني أو حتى مفهومي في الحريات ولقمة العيش الكريمة، ويبدو أن الثابت الوحيد الذي يراه هو ثابت وجودي محض، يتمثله في بعده الشخصي السابق على كل معرفة وكل متغير واقعي.

وقد يتفق كثير من النخب السياسية معه في نقده للمعارضة السورية، وهذا حق، لكن أن يقدم مجازفة سياسية منقطعة عن جذورها المعرفية، فهذا خلط مفهومي. فتحقيق الاستقرار المدني والتأسيس للحريات السياسية والانتصار لمظالم الشعوب، ستقود للاتفاق مع مسلمته الذهنية الثابتة في تحقيق العلمانية في المنطقة العربية مثلما حققتها الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا، ما يقود بكل لحظة لفتح حوار عن الموروث البطريركي لمجتمعات الأسرة ومجتمعات التدين في عمقها المعرفي والسيكولوجي، ولم يكن هذا بعيداً عن مثقفينا يوماً، لا أن تُصدر هذه الأقنومة الصلدة في صورة موقف سياسي مخاتل لا يميز بين حرية تنقله في دول العالم منظراً للعلمانية، التي نريدها أيضاً، وللشعر، الذي نتذوقه أيضاً، طمعاً في ترشيحه لجائزة عالمية، وبين منع الآلاف من السفر أمنياً واعتقالهم وتشريد الملايين!

في المنطق، قد تبدأ بمسلمات صحيحة فتقودك احتمالاً إلى خطأ أو صواب، ومرد هذا للمنهج والطريقة في التفكير ولربما لنفعية محضة اتفاقاً مع الفيلسوف الكبير المرحوم إلياس مرقص، فلن نختلف مع الفكر “العَلماني” هذا أو “اليساري” ذاك الذي يضعنا أمام بديهية ومسلمة كبرى: أن التجمعات البشرية الأولى للثورة السورية بدأت من الجوامع، لكن هل تساءل أصحاب المنهج “العَلماني” ذات يوم، ولربما تساءلوا وآثروا الاستكانة لإجابة قابعة في الرأس أولاً و آخراً، متى كان مسموحاً للشباب السوري التجمع لأكثر من ثلاثة؟ وهل ترك الأمن ونظام الرقابة المحكم مكاناً لتجمع البشر غير المحافل الدينية دون أن يمنعه أو يقفله أويعتقل أصحابه؟ وربما يتناسون تجربة ربيع دمشق ومنتدياتها. وهل سُمح للشباب السوري التجمع في أي مكان آخر غير الجامع يضمنون به حماية تجمعهم من غزو همجي لأجهزة الأمن وغيرها قبل انطلاقة أصواتهم والتعبير عن طلباتهم ورفع شعارتهم المنادية بالتغيير الديموقراطي، بالحرية والكرامة والإنسانية، بعدالة الفرصة المجتمعية والقانونية والعلمية والعملية؟

وحيث أني لا أظن أن يقصد لمرات الجامع بالمكان، بقدر قصده البنية الذهنية. وهنا مأخذ أكبر لعلماني العصر، فمتى كانت العلمانية إلغاء للدين؟ فكونها فصل بين الدين والدولة، فهي تثبت الدين واعتراف به وبحرية الاعتقاد داخل منابره المتنوعة؛ فالتغيير المطلوب هو تغيير في بنية الدولة ومؤسساتها لا في مكنون الدين، وهذا من حيث المبدأ دون الدخول في نقاش ديني أصلاً.

يبدو أن ثبات الزمن في مشروعه “الثابت والمتحول” هو الميزة المعرفية الكبرى لأدونيس أمام صدمة متغيرات الواقع؛ فلم يتسع صدره لسماع الآخرين ولم يسعفه شِعره ولا فلسفته المتحولة لأيديولوجية نفعية من التوقف مع سؤال الهوية والمواطنة والعقد الاجتماعي بالضرورة. فلم يرَ الثورات سوى صورة ثابتة في مخيلته، باردة لدرجة الموات الروحي، فلا هو أنتج معرفياً، ولا أقر بضرورة تراكمه وبمساواة التجربة الحسية للكل المجتمعي، ولا نأى بنفسه عن تصدير موقف سياسي “عَلماني” موارب لا يوصف نحتاً إلا بالعَلما-لوجي

Click to comment

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

To Top