– الأتاسي: الثورة كانت فعلاً عفوياً صادقاً وناجماً عن فرط تغول النظام أمنياً واجتماعياً واقتصادياً..
– خواتمي: صارت مصائرنا كسوريين تحت تصرف صراعات دولية وإقليمية..
– مصطفى: سوريا الدولة لم تكن في يوم من الأيام تعبيراً عن الإرادة الحرّة والحقيقة لأبنائها..
– أبو هاشم: نستشعر اليوم خطورة وفداحة غياب مشروع التغيير الوطني..
غسان ناصر
عشر سنوات هو عمر الثورة السورية اليتيمة المختطفة؛ الثورة التي أعلن أبناؤها في آذار/ مارس 2011 أنّ سوريا لنا نحن أصحاب هذه الأرض وليست مزرعة لآل الأسد، الذين حكموا البلاد على مدار عقود طويلة بالحديد والنار لحماية عرشهم ومصالحهم ونهب خيرات سوريا. ومن هتاف “الشعب السوري ما بينذل” وصولاً إلى هتاف “الشعب يريد إسقاط النظام”، دفع أحرار وحرائر سوريا أثماناً باهظة على درب الحرّية والخلاص؛ الخلاص من الحكم الاستبدادي الشمولي الطائفي الفاسد، ومن أصحاب المطامع ولصوص الحروب.. ومن أمراء الجماعات الدينية والطائفية المتعصبة، ورغم أنّ الدرب لا زالت طويلة للوصول إلى سوريا حرّة ديمقراطية، إلّا أن إيماننا راسخ أن كل هذه الحروب المعلنة على الشعب السوري ستمرُّ لتبقى الحكاية الأساسية، حكاية سوريا الأم وشعبها الذي ثار ضدّ الطاغية المستبدّ من أجل حرّيته وكرامته..
“طلعنا عالحرّية” توجّهت لعدد من الكتّاب والناشطين الفاعلين في مجتمعنا السوري الثوري، سائلة إياهم: بعد هذا المخاض العسير؛ أين ترانا تعثرنا؟ وأي ضرورة لإعادة التفكير في مسيرة السنوات العشر ؛ وفي مآلاتها، وكيف يمكننا الاستفادة من أخطاء هذه الرحلة الطويلة من العطاء والتضحية ذَوْداً عن كرامتنا، ومن أجل سوريا الغد؟
البداية كانت مع المعارض البارز المؤرخ والمهندس نشوان الأتاسي، صاحب كتاب “تطوّر المجتمع السوري: 1831 – 2011”، الذي قال: “كان عقداً مفصلياً، مغرقاً بدمويته وكارثيته، وسوف يبقى محوراً لأبحاثٍ ودراساتٍ على امتداد عقود؛ بيد أنّ ذاك الزمن الذي فصل بين تاريخ اندلاع ثورة السوريين في آذار 2011 ويومنا الراهن قد منحنا فسحة من الوقت ربما تؤهلنا، نسبياً، للتبصّر والتفكّر في مسار الأحداث وفي مآلاتها. الخلاصة الأهم التي يمكن استنتاجها في هذه العجالة هي أنّ الثورة كانت فعلاً عفوياً صادقاً، وناجماً عن فرط تغوّل النظام أمنياً واجتماعياً واقتصادياً.. ما جعل من سوريا مجتمعاً ذا طبقتين: طبقة فاحشة الثراء وطبقة فقيرة معدمة، الأمر الذي أدى إلى انزلاق نحو 34% من السوريين إلى ما تحت عتبة خط الفقر الأدنى، خاصة في أرياف المدن الكبرى وضواحيها التي كانت الأشدّ تضرراً من مفاعيل التحوّل إلى نظام السوق الاجتماعي، فشكّلت بذلك لاحقاً الخزان البشري للثورة وحاضنتها الشعبية؛ في حين كان الوضع على النقيض لدى السلطة الحاكمة التي كانت على أهبة الاستعداد للتصدي لأي حراك شعبي من خلال مجمل أجهزتها الأمنية والعسكرية، والإعلامية والنفسية، الموجّهة كلها أصلاً باتجاه عدوها الأول والوحيد: الشعب!”.
عفوية الشعب مقابل تنظيم آلة النظام القمعية
الأتاسي أضاف: “تمظهرت هذه المفارقة جلياً منذ أيام المواجهات الأولى؛ ونقصد بذلك العفوية والارتجالية وانعدام التخطيط الذين اتّسم بهم الحراك الشعبي؛ والمواجهة المنظمة له من قبل النظام على كافة الأصعدة، بحيث بدا الشعب طرفاً تم إقحامه في أتون معركة لم يكن مؤهلاً -موضوعياً ولوجستياً وتنظيمياً- لخوضها، فيما كان النظام على استعداد تام لشنّ حرب التطهير والإبادة التي كان يخطط لخوضها بأسلوب منهجي ومدركٍ لمآلاتها ونهاياتها. تجذرت تلك المفارقة لاحقاً في قيام “أصدقاء الشعب السوري!” بصناعة “معارضات” سياسية ساهمت هي الأخرى، بوعي أو بدونه، في الوصول إلى ذلك الهدف.
تجيير الثورة !
لن نغالي بالقول إذاً إنّ الشعب قد دُفع دفعاً إلى ثورةٍ، تملك من المشروعية ما لم يتحقق لثورات أخرى، إنما بغرض تجييرها نحو هدف إستراتيجي مخطط له مسبقاً، توضحت ملامحه وأبعاده في سياق ما تلا من أحداث ومجازر وهندسة ديموغرافية هي، منذ البداية، الهدف الرئيس لكل ما شهدته الأرض السورية (المجتمع المتجانس)”.
يتابع محدثنا قائلاً: “باشر النظام بدايةً مهمة تنفيذ هذا الهدف الرئيس، ثمّ تشاركت معه لاحقاً كافة قوى الأمر الواقع التي تتحكم اليوم في الجغرافيا السورية، عبر توافقات دولية وإقليمية راعية له وعاملة على تحقيقه. وقد لا نجافي الحقيقة إن ربطنا مجريات أحداث السنوات العشر الأخيرة في سوريا ومآلاتها بمثيلاتها في كل من العراق ولبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة.. وبتحول إسرائيل إلى دولة يهودية”!
عالقون في عنق الزجاجة..
بدورها قالت القاصة والروائية سوزان خواتمي: “كيف نقيس الثورة السورية بعد مرور عشر سنوات من اندلاعها؟ هل يجوز قياسها بما ترتّب عليها من انقسام البلاد وشتات العباد، أم بحجم الألم والوجع والخيبات، أم بعدد اللاجئين وأسماء المخيمات، أم بقوائم ضحايا التعذيب والمغيبين قسراً، أم بخسارة إحساسنا بقيمة العدالة في مواجهة عالم ظالم؟ أم علينا نفض أيدينا من ثورة حق طالبت بالكرامة والحرّية وسرقها المرتزقة والانتهازيون، وأفسدها المال السياسي!”.
تضيف صاحبة رواية “ربع وقت”: “السنوات العشر من عمر الثورة كشفت وحشية نظام لا حدود لإجرامه، وغذت الفرقة بين أطراف المعارضة، وتداخلت فيها الفصائل الإسلامية وتنظيم “داعش”، وصارت مصائرنا كسوريين تحت تصرف صراعات دولية وإقليمية تسعى أطرافها لمصالحها وانتفاعاتها الخاصة. إنّ الثمن الذي دفعه ويدفعه السوريون يسجله التاريخ كأحد أكبر مآسي العصر..
ولكن ماذا لو لم تقم الثورة؟
لو لم تقم الثورة لكنّا حتى اللحظة نصفق لبطل الانتصارات الوهمية، ونخرج رغماً عنا في مسيرات التأييد، ونتابع أعضاء مجلس الشعب يهللون لاستلام حفيد حافظ الأسد للسلطة، ونتكتم على الاعتقالات، ويختفي شبابنا دون أن يكون لنا الحق في ذكر أسمائهم أو السؤال عنهم، ونُهان ونسكت، ونرتجف إذا ما ذُكِر أمامنا اسم أحد الفروع الأمنية. ليست صورة سعيدة بأي حال!”.
لا يدوم الظلم مهما طال
خواتمي تابعت قائلة: “نحن اليوم عالقون في عنق الزجاجة، بانتظار حل يرضي المجتمع الدولي لإنهاء مأساة بلد، وحتى يحدث ذلك سنشهد المزيد من المفارقات والصراعات والادّعاءات والوصايات الفكرية التي تزيد من تأزم وفوضى المشهد السوري. ربما لن أتمتع برؤية سوريا ديمقراطية حرّة كما أحلم بها، ولكن جيلاً آخر قادم سيفعل، فلا يمكن لظلم مهما طال أن يدوم، ولا أحد يعيش إلى الأبد”.
في نقد الثورة وتحوّلاتها..
من جهته بيّن الكاتب والروائي عماد مفرح مصطفى، أنّ سوريا تشهد منذ عشر سنوات تحوّلات عميقة “كنتيجة حتمية عن جملة أزمات مركبة في بنية الدولة والسلطة والمجتمع، وبسبب هذه التحوّلات وتناقضاتها أفضى الصراع إلى جملة من الحروب البينية والمنازعات الأهلية، فسوريا الدولة لم تكن في يوم من الأيام تعبيراً عن الإرادة الحرّة والحقيقة لأبنائها، مثلما لم تكن السلطة فيها إلّا مشروعاً للتأبيد والتوريث. هكذا، وبين نزوع الدولة الاستبدادية وسلطانية السلطة دفعت المجتمعات السورية أثماناً باهظة ومكلفة للغاية. الواضح أنّ ما حدث ويحدث في سوريا، بحجمه وتحوّلاته وتدخلاته، هو أكبر من أن تستوعبه القوى السياسية والأيديولوجية في تلك البلاد المنكوبة، بعد أن باتت غالبية تلك القوى مرتهنة للاحتلالات والاختلالات المتعدّدة والمتناقضة في المصالح والتوجهات.
صدمة الحراك الشعبي والصدمة المعرفية
ولعل أكثر ما كشفت عنه السنوات المنصرمة من عمر الأزمة، مدى عدم تجذر الحداثة وأسئلتها الإشكالية في واقعنا ووعينا؛ فالصدمة التي أحدثها الحراك الشعبي على المستوى السياسي، لم تقابل بذات الفاعلية على المستوى الثقافي والإبداعي، حيث لم تتحوّل قيم “الحرّية” وما تبعها من تحوّلات إلى صدمة معرفية، تؤسّس لإعادة إنتاج قيم اجتماعية جديدة. على العكس، ازداد دور المقدس في حيواتنا، خاصة مع أسر “عقدة المظلومية” ذهنية السوريين. في حين كان من المفترض، أن يتم تجاوز “المقدس” قياساً على سمت “الحداثة”، مع إمكانية التحرك نحو عالم، لا سيطرة فيه للرموز الدينية، بمعنى الانتصار للدنيوي ومحدده الإبداعي أولاً”.
صاحب كتاب “سوريا تحولات الهويّة والانتماء” يضيف في حديثه لمجلة “طلعنا عالحرّية”، قائلاً: “بصورة ما، لم تستطع صدمة الحالة السورية رغم أحقية مطالبها وشرعية أهدافها النبيلة، خلق معايير جديدة، في الواقع الثقافي المعاش، بل تم استعادة الماضي سياسياً وفكرياً، مع تكريس اليقين، وإشاعة الانغلاق، والدفع باتجاه مذهبية فكرية جديدة لا تخضع للنقد أو التقييم. فقد فرضت الحرب دائماً صيغة القبول والخنوع والخضوع، وبذلك فقدت تلك الصدمة احتمالات التعدّد، وانكمشت إلى أحادية الحقيقة المطلقة والثابتة، ولذا لم يكن من المستغرب رؤية تحوّل طالب الحرّية إلى “مجاهد”، ومن ثمّ تحوّل ذات المجاهد إلى إرهابي، والإرهابي إلى مرتزق يأتمر بأوامر دول إقليمية يحدوها الفاشية والطمع”.
يبقى سؤال الوعي معلّقاً
يختم مصطفى مؤكّداً، أنه “بعد عشر سنوات لم تتحوّل قيم الحرّية إلى قيمة ثقافية مضافة إلّا في صيغ خطابية منسّقة ومترادفة مع ما هو سياسي. صحيح أنّ الإحساس والمزاج العام، تبدل على وقعها، إلّا أنّ سؤال الوعي بقي معلقاً، في ظل التهافت الكبير على دور الضحية والتشبث بعقدتها، بغية الحصول على دعم أكبر وتعاطف أكثر”.
حرف وتشويه المشروع التحرّري للثورة..
الناشط الحقوقي المحامي أيمن فهمي أبو هاشم (المنسق العام للتجمع الفلسطيني السوري الحر “مصير”)، قال: “تجربة الثورة السورية، تكثّف في سنواتها العشر حالة الاستعصاء العنيدة بين أهداف الثورة وما آلت إليه؛ فالوقائع التي تراكمت خلال محطاتها، كشفت عن سطوة المشاريع التي استغلت حق السوريين بالحرّية والخلاص، لحرف وتشويه المشروع التحرّري للثورة، ولو كان الثمن كما رأينا إغراق سورية وشعبها، في بحور من الدم والمآسي والخراب. كلما كانت تلك الحقيقة تكبر ككرة الثلج، وتستدعي إعادة المطابقة بين الطابع التحرّري لفكرة الثورة، وحواملها السياسية والمجتمعية القادرة على إدارة الصراع مع نظام الاستبداد وحلفائه، من خلال عملية تصويب لأداء قوى الثورة والمعارضة، كانت الإجابات الوطنية مُخيبة للآمال. هذا ما يفسر إلى حدٍ بعيد، تولد انطباع سوري عام، بأن القوى الدولية والإقليمية هي صاحبة اليد الطولى في تقرير مصير البلد. لذلك نستشعر اليوم خطورة وفداحة غياب مشروع التغيير الوطني، ودرجات الانقسام والخلاف في صفوف القوى والنخب السورية، التي اندرج جزء لا يستهان منها في لعبة الولاءات والمصالح الخارجية”.
تعقيدات وجود البدائل الوطنية
أبو هاشم أضاف: “بالمقابل ثمّة صعوبات وتعقيدات كبيرة في استيلاد بدائل وطنية مستقلة، منها ما يعود لأسباب ذاتية، كضعف ثقافة العمل الجماعي، والافتقار إلى قيادات تستطيع توحيد جهود وطاقات السوريين، وحالة الإفساد البنيوي التي اخترقت المؤسّسات السياسية والعسكرية والمدنية، واستغراق النخب المثقّفة في التنظير حول تشخيص الواقع، دون بناء مبادرات عملية تشتغل على المعالجات والحلول. ومنها ما يعود إلى أسباب موضوعية، من أهمها تعدّد الجغرافية السياسية، التي يعيش السوريون بحكم اللجوء، تحت تأثيرات سياسات الدول وتوجّهاتها المختلفة في التعامل مع قضيتهم، ودعم الدول المتدخلة لوكلائها المحليين في مناطق نفوذها، وانكشاف نفاق المجتمع الدولي، الذي لا توجد لديه إرادة جدّية لتغيير النظام السوري”.
بناء حامل وطني
ينهي الناشط الحقوقي، حديثه معنا بالقول: “كل مؤشرات الاستعصاء في المشهد، وقد بلغ ذروته في الذكرى العاشرة للثورة، تؤكّد أنّ إنقاذ مشروع الثورة، يعني بكل وضوح إنقاذ الوطن السوري، الذي بات يواجه تحدّيات وجودية غير مسبوقة، وإذا كان من درس يمكن الاستفادة منه، في ضوء المحصلات العشرية وخساراتها الأليمة، فأعتقد أنه يتمثّل في بناء حامل وطني ديمقراطي، يعزز الثقة الجمعية بين السوريين، ويخاطبهم في مختلف المناطق التي يتواجدون فيها، سواء في الداخل أو الخارج، كأصحاب مصلحة مشتركة في الخلاص، من الاستبداد السلطوي الجائر، ومن قوى الهيمنة والنفوذ الخارجي، ومن التطرّف بمختلف أشكاله. ويكون لديه مشروع عملي يتوحد السوريون عليه، ويحققون من خلاله ما يصبون إليه من بناء دولة الحرّيات والمواطنة والقانون، وتثمير التضحيات العظيمة للشعب السوري، والدفاع عن القيم الوطنية والإنسانية النبيلة لثورته المجيدة.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج