في مستهل العام الخامس للثورة السورية، يتلون مشهد العنف الضارب في سوريا بألوان جديدة، وتضيع البوصلة لدى العديد من الفصائل، فتتغير الوجهة وتتعدد الجبهات، وتسيطر على المشهد النزاعات الفصائلية البينية، وتكون أشدها ضراوة تلك التي تدور بين الفصائل التي تتقارب في منابتها الايدلوجية، لكن الذي يعرف الجذور الثقافية لمعظم الفصائل يعرف أن المرض سيصيب الجميع، لأن الفصائل جميعا تنحدر من جذور ثقافية مشتركة، فالثقافة العربية ككل الثقافات الإنسانية هي ثقافة مشبعة بالعنف، لم تتح لها فرصة الدراسة النقدية التي تتيح لها التعرض لضوء المعارف المعاصرة، ولم تعطها المناخات السياسية العالمية والإقليمية الفرصة للتنفس الطبيعي والالتفات إلى الذات للتفكر والمراجعة، بل ما زالت المنطقة منذ مطلع عصر النهضة ضحية للعنف الناتج عن الاستعمار بأنواعه، وهذا العنف بنجاحاته وإخفاقاته يعزز الموروث الثقافي الذي يجعل السيف أصدق أنباء من الكتب.
وكانت إخفاقات محاولات التغيير العنيف في العالم العربي خلقت حالة من اليأس من إمكان التغيير عبر العنف المسلح، ثم كانت النجاحات الأولى للربيع العربي في تونس ومصر التي عززت الأمل بإمكان التغيير غير العنيف لنظم الحكم المسيطرة منذ عقود.
لكن هذه الصورة الواعدة لم تكتمل فسرعان ما دخل عامل القوة العنيفة على الخط، عند انطلاق الثورة الليبية، وكان المغري هو تدخل الغرب المضلل، والذي كانت غايته الحفاظ على امدادات النفط الليبي القريب للشواطئ الأوربية، لكنه قرئ وتم تسويقه كتدخل لنصرة حرية الشعوب وحقها في الديمقراطية، وانطلقت الثورة السورية ضد نظام هو بالنسبة للغرب نظام وظائفي قدم خدمات لا تقدر بثمن، وإن لم يكف عن المناكفة يوما لكنه يعرف قواعد اللعبة فلا يكسرها، ويعرف الخطوط الحمر فلا يقربها، فقرر الغرب أن يدعم الثورة بلسانه في الوقت الذي يعطي النظام الفرصة للقضاء على الثورة بالسبل الممكنة، وكان من الواضح أن تحديد الرئيس الأمريكي أن السلاح الكيماوي خط أحمر، أن لا حرج على النظام في استخدام كل وسائل الموت والتدمير ما تجنب الكيماوي، وحتى عندما دقت ساعة الحقيقة واستعمل النظام السلاح الكيماوي تبين أن هذا الخط الأحمر خط أحمر زائف وأنه يمكن تجاوزه دون مخاطر، ولذلك أصبح السلاح الكيماوي سلاحا تقليديا في حرب النظام ضد شعبه على مرأى العالم وسمعه.
كل هذا العنف، إضافة للموروث الثقافي حول عسكرة الثورة إلى نزعة عسكرية تسيطر على التفكير وتتصدر قائمة الخيارات في العمل اليومي لمسلحي المعارضة، عزز ذلك سيطرة العقلية السلفية الأحادية التي تعتقد بإمكان امتلاك الحقيقة ووحدتها، وهي لا تعرف التعدد ولا تؤمن بالآخر، في الوقت الذي هجرت فيه كل النخب المثقفة السورية المناطق المحررة التي تتعرض للقصف بالمدفعية والصواريخ والبراميل المتفجرة هربا من الموت أو الإعاقة، وصمتت كل النخب التي تعيش في مناطق سيطرة النظام خشية التنكيل والبطش، هذه المناخات تنذر بتكرار سيناريو الصوملة والأفغنة في سوريا، وسيطيل معاناة السوريين لوقت طويل، لكن هذا المسار الذي فرضته المنظومة الدولية والإقليمية كعمل انتقامي من ثورة السوريين وتوقهم للحرية، لن يكون مقبرة لأمال السوريين الطامحين في الحرية والعدالة والكرامة، ولن يكون المجتمع الدولي الذي يخون قيمه بمنجاة من آثاره المدمرة لأن الاخلاق لا تتجزأ والقيم الإنسانية والحضارية لا يمكن احتكارها، فلم يعد العالم كبيرا بحيث تسمح أبعاده باشعال الحرائق في ممتلكات الآخرين بينما تستمتع أنت بالتأمل في لهيبها.