مجلة طلعنا عالحرية

الثورات المنبوذة وردّة الأنظمة / ماهر مسعود

إمشي الحيط الحيط.. ! كاريكاتير للفنان سمير خليلي

إمشي الحيط الحيط.. ! كاريكاتير للفنان سمير خليلي

إذا أخذنا في الاعتبار أن أولى الأوليات الكلاسيكية الأمريكية في المنطقة هي البترول وحماية أمن إسرائيل، وإن أولى أوليات الأنظمة ودول الإقليم بالمجمل، منذ بداية “الربيع العربي”، تتمثل في منع نجاح الثورات في البلدان التي قامت فيها، ومن ثمة منع تقدمها نحو بلدانها وشعوبها، سنجد أن كل من مصر وإيران والسعودية وتركيا وإسرائيل؛ وإن اختلفوا في الكثير، فإنهم متفقون تماماً بهدف إفشال الثورات ونبذها، وبالمقابل فإن أمريكا؛ التي هي بالأصل ضد المبدأ الثوري في العالم، تشجع اتفاقهم “المختلف” طالما أن تلاقي الأولويات الاقليمي يتقاطع مع الأولويات الأمريكية ولا يتعارض مع مصالحها الاستراتيجية، ولاسيما إذا أضفنا إلى جانب البترول وحماية إسرائيل، الاتفاق النووي مع إيران كأولوية أمريكية ثالثة مستحدثة منذ احتلال العراق ومُعززة منذ تحول الثورة السورية إلى حرب دولية بالوكالة، لا يعني أمريكا منها سوى نزع أنياب إيران النووية مقابل مدّ أنيابها الإقليمية وحمايتها.

ربما كان واضحاً في وقت سابق أن إحدى الأسباب الهامة لوقوف روسيا ضد الثورات ومواقفها الصلبة مع النظام السوري بوجه خاص هو؛ بالإضافة إلى معاندة الغرب وابتزازه، خوف روسيا بزعامة بوتين من امتداد موجة الثورات إليها وعدائها التاريخي للثورات الديمقراطية، بينما كانت أمريكا أقرب للتأقلم مع التغيرات التي أحدثتنها الثورتان التونسية والمصرية الأولى، أما اليوم فقد تغير المشهد بعد احتلال الإسلام السياسي والعسكري واجهة الحدث، حيث إن روسيا لم تعد تخشى ارتداد المد الثوري نحوها بقدر خشيتها ارتدادات أخرى، ومن ضمنها ارتداد الإرهاب الذي شاركت في صناعته، نحو أراضيها.

يبدو أن إيران في طور مقايضة النووي بمد إقليمي يعزز مشروعها الإمبراطوري عوضاً عن النووي، لكن المد الإقليمي هو الثمن المباشر، أما الثمن الأهم، وغير المباشر، هو أن تخليها عن النووي، قد يمنع قيام ثورة إيرانية يحتضنها وينتظرها الشعب الإيراني، كون الاتفاق مع الغرب يعني انتصار مشروع النظام السياسي/الديني القائم، ويرفع العقوبات ويقوي الاقتصاد الايراني، ما يقطع الطريق على منتظري فشل المشروع وفشل تطرفه الحاصل ضد الخارج والداخل الإيراني معاً، بينما تضطر كل من مصر والسعودية، ودول الخليج والأردن خلفها، بالإقرار بالأمر الواقع وذلك خوفاً من نجاح الوجه الديمقراطي للثورات، وتعزيز بقائها ضمن المد الإسلامي الموصوف بالتطرف، ما يسهل نبذها وقمعها بعد اختزالها بالإرهاب، وذلك أمر يعززه الحضور الإيراني الشيعي المتزايد في المشهد الاقليمي والتقارب الغربي مع إيران، حيث إنه يدفع الثورات باتجاه التقاتل السني الشيعي وفروعه، ويبعدها عن وجهها الديمقراطي الأساسي الذي قامت لأجله تحت شعارات الحرية والكرامة.

لم تعد الثورات منبوذة من الأنظمة المحلية وحلفائها الإقليميين والدوليين وحسب، بل أصبحت كذلك من الشعوب العربية التي تنوس في الحيرة واليأس بين قاتلين، عسكري وإسلامي، وداعمين دوليين للقتل المجاني، بينما هي منبوذة؛ مع خليط من الشعور بالذنب والخوف من النتائج، من قبل المجتمع المدني حول العالم، ذلك الذي يأنُّ تحت وطأة الإسلاموفوبيا من جهة، والابتذال الإعلامي الذي يصور الثورات بوصفها حرب أهلية في أحسن الحالات، أو يختزلها في التفسير الجيوسياسي للعبة الأمم مع الإشارة الأكثر اختزالاً إلى أنها تمرد الإسلام المتطرف ضد الأنظمة العلمانية من جهة أخرى.

بعد أن كانت الثورات العربية تمثل الأكثرية الوطنية المستفيدة من التغيير (خارج الطوائف والمذاهب)، عادت؛ مع النتائج الكارثية الحاصلة، لتمثل العدد الأقل من الناس المتمسكين بروح الحرية والعدالة والكرامة التي انطلقت لأجلها الثورات، ذلك أن الشعب العربي البسيط؛ وكأي شعب في العالم، يفضل الحياة، بأقل تقدير، ويفضل الاستقرار والسلام، على الثمن الباهظ الذي يدفعه مقابل أبسط حقوقه في الحياة والحرية والعيش الكريم، وما رآه من تحالف أصحاب الثروة والامتياز والسلطة محلياً إقليمياً ودولياً، ومن متاجرة رخيصة بدمائه من قبل الأقوياء وأصحاب السياسة، وما خبره من تطرف وعنف عسكري أولاً وإسلامي ثانياً، وما عاينه من تهجير وتشرد وإبادة جماعية بتواطؤ عالمي ضد الضحايا.. كل ذلك يكفيه لأن ينبذ الثورات ويكره الساعة التي فكر فيها أن يخرج ضد الطغيان أمام الخيارات السيئة التي يجد نفسه أمامها، والتي دفعته يوماً لتفضيل مرسي على شفيق، ثم تفضيل السيسي على مرسي، كما في حالة الشعب المصري.

 

لكن ما المعنى المستخلص من ذلك، هل فشلت الثورات؟

بالمعنى المعياري الذي يقوم على ما يجب أن تكونه الثورة، فإن الثورات قد فشلت نعم، أما بالمعنى الواقعي؛ والواقع هو الذي يحدّ كل المعايير ويحددها، وعلى صخرته تتكسر كل الرؤوس الحامية، فإن الثورات لم تفشل وغالباً لا يمكنها الفشل، فللتاريخ والزمن اتجاه واحد (أحياناً نقول مع الأسف) والواقع الذي تغير لن يعود، حتى لو أراد إرجاعه كل الذين خرجوا في الثورة ذاتهم عوضاً عمن هم ضدها، وأما بالمعنى الموضوعي المجرد والمستقل عن رغباتنا، فإن الثورات تصنع تاريخنا ولكن بالتأكيد لا تصنعه على هوانا، وبالتأكيد أكثر لا تصنعه على هوى حكامنا أو حكامهم.

Exit mobile version