الثوار الإرهابيون واقعة تتعايش فيها التناقضات معاً، وتتداخل تجاهها آراء قوى الثورة. فهم ثوار لأنهم يعملون على تغيير الواقع القائم في سوريا، ويجاهدون لإسقاط النظام فيها. ولكنهم إرهابيون لأنهم يديرون المناطق التي قضموها “بإدارة التوحّش”، ويؤسسون لبديلٍ إسلامي أممي. ولهم طريقتهم وزمنهم وتوقيتهم الخاص في إسقاط النظام، وعندهم إدارتهم الخاصة للمناطق التي سيطروا عليها، ويؤسسون البديل الخاص بهم أيضاً. إننا أمام استبداد الخاص عند الثوار على العام الشعبيّ، وهذا الاستبداد هو المُمثِّل للجذر الفلسفي للإرهاب.
تتعايش التناقضات مع بعضها البعض واقعياً وآنياً في حالة “تراكبٍ” كموميٍّ، رغماً عن أنف إرادة السّورييّن الهادفة إلى إنتاج تركيب مناسب من المتناقضات. وهذا ما يسوِّغ لنا استخدام مفردة الثوار، كموصوف محبب إلى النفوس عموماً، مع مفردة الإرهابيين كصفة مكروهة.
ثمة تداخل معقد في الحالة السّوريّة، المرتبطة بالحالة الدولية والحالة الإقليمية، ينتج عنه جمع مفهوميّ جديد. ولكنّه يمكن لنا فرز التّداخل والتشابك والاختلاط استناداً إلى هدف إسقاط النظام وبالنسبة له، على قاعدة أن َّمن يريد إسقاط النظام هم الثوار، ولكن اختلافهم بالتوقيت والإدارة والبديل يجعل منهم إرهابيّين.
لم تنجحْ المحاولات الرامية للفصل في واقعة التعايش هذه بين صفة الثوريّ وبين صفة الإرهابيّ في سوريا. وما زال التّداخل والتّشابك قائماً بين المفردتين بشكل كبير. بل قل، إنَّ المحاولات المحليّة والإقليميّة والدوليّة الرامية للربط بين المفردتين، وتوظيف هذا الربط واستثماره في الصراع ووجهته، هي التي تلاقي حظوظاً من النجاح أكبر بكثير من تلك التي على النقيض.
ويعود عدم النجاح بعملية الفصل للكثير من العوامل التي لا مجال لنقاشها هنا. ولكن نذكر منها ما يتعلق بالاختلاط والاختزال الذي يَكمُن في خطاب قوى الثورة. الخطاب الذي يقوم على إرجاء النقد للثوار الإرهابيين، وإرجاء مواجهتهم ومعارضتهم حتى يسقط النظام. وهو خطاب يُضمِر إمكانية توظيفهم واستثمارهم في مرحلة ما بعد السقوط. فيتم الخلط ومسح الفروق، بين ثلاثة أفعال أساسية تقوم بها القوى الإسلاميّة، لتقديمها في فعل واحد، يُعتقد أنَّه يصبّ في سيرورة إسقاط النظام.
الفعل الأول عسكريّ تقوم به عدة قوى إسلاميّة، وتحتاجه قوى الثورة لعجزها عن تغطيته، وتكون نتيجته خروج بعض المواقع والمناطق من سيطرة النظام عليها. فقضم المواقع والمناطق يصبّ في خانة إسقاط النظام ويمكن النظر إليه بوصفه فعلاً ثورياً. وبهذه الحالة لا اهتمام بلون القط طالما أنَّه يأكل الفئران. أما الثاني فهو ما يرتبط بإدارة المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، إدارة على طريقة “أبي بكر ناجي” في كتابه “إدارة التوحّش”، والتي يغلفها مبدأ “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” شرعاً، و”نظام الحسبة” والهيئات الشرعية بالقصاص والقتل ممارسة. وهي حالة غريبة عن السوريين ولا تمثِّل طموحهم أبداً. وأخيراً الفعل الثالث الذي يرتبط بتأسيس البديل عن النظام في حال سقوطه، وغالباً ما يكون هذا البديل هو الدولة الإسلاميّة الأمميّة متعدية الحدود. وهذان الفعلان الأخيران، فعل الإدارة وفعل البديل، هما اللذان يتصفان بالإرهاب غالباً عند قوى الثورة الذاهبة باتجاه دولة وطنيّة ذات نظام ديمقراطي وإدارة مدنيّة وعصريّة للمناطق.
وبفضل التداخل بين هذه الأفعال الثلاثة كان التداخل على مستوى المفهوم. ومن هنا يأتي التلازم بين الثوار وبين الإرهابيين؛ هاتان المفردتان المتناقضتان في الوعي الشعبي السوري. فيحتار السّوريّ أمام أفعال جبهة النصرة مثلاً؛ فمن جهة أخرجت إدلب من سيطرة النظام، وهذا فعل ثوريّ. ومن جهة ثانية تدير إدلب بنظام الحسبة والهيئة الشرعية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعتقل ناشطي الثورة وتستتيب شبيحتها، وهذا فعل غير ثوريّ (إرهابي)؛ لأنه يقوم على الإخضاع ويناقض هدف الحريّة والكرامة المنشود. ومن جهة ثالثة تؤسس لدولة إسلامية عابرة للحدود وتهدِّد أنظمة أخرى في المنطقة، وهذا فعل يناقض سعي الثورة لتحقيق دولة وطنية ذات نظام ديمقراطي تساهم في أمن واستقرار المنطقة بدل تهديدها.
وتظهر بوضوح شديد لنا مسألة التوقيت في سيرورة إسقاط النظام ومواجهته وقضم مناطق سيطرته؛ فالبغدادي وتنظيم الدولة ليس في عجلة من أمره، وعلوش وجيش الإسلام كذلك؛ فكلما طالت سيرورة الإسقاط والمواجهة وقضم المناطق، كلما تحولّوا إلى سلطة الأمر الواقع، وتمكّنوا من الإدارة الخاصة بهم، ومأسسة البديل الخاص لمشروعهم. ولكن نرى هؤلاء في عجلة من أمرهم لتطبيق نظام الحسبة وبسط النفوذ والقبض على المعابر الحدودية ومواقع النفط والغاز والفوسفات والآثار.
هذا التّمييز يضعنا إزاء إشكالية المقياس الذي نقيس بالنسبة إليه ونصنِّف القوى على أنها إرهابيّة وثوريّة في آنٍ. فقد ارتبطت ثورة الحريّة والكرامة في سوريا بهدف إسقاط النظام. وبمرور الزمن تبلور الهدف وتحول إلى استراتيجية للقوى الثوريّة. وبقدر ما تعتمد هذه الاستراتيجية على الجانب الذاتي عند الشعب السّوريّ المتعلق بوحدته وتخطيطه وتنظيمه، تعتمد كذلك على الجانب الموضوعي المتعلق بالعرضي والمصادفة والعشوائية وغير المتوقع. ثم تحوّل تدريجياً شعار إسقاط النظام إلى معيار ورائز نقيس عليه لنُحدِّد من هو الثوري ومن هو غير الثوري. وبات لدينا من يكتفي بإسقاط النظام، وإنتاج بديل وطني ديمقراطي له، وإدارة المناطق مدنياً وعصرياً. ومنهم من لا يكتفي بإسقاط النظام، ويسعى لاستخدام سوريا محطة لإسقاط أنظمة أخرى، وإنتاج بديل أممي إسلامي يهدد الأمن والسلم العالمييّن، وإدارة المناطق عسكرياً وأمنياً وعقائدياً ضمن نظام الحسبة. ومنهم من يريد بقاءه واستمراره.
وبالمحصلة، هل يريد كل من تنظيم الدولة وجبهة النصرة وجيش الإسلام إسقاط النظام فعلاً؟! وهل يمكن للمراهنين على الثوار الإرهابيين توظيف واستثمار أفعالهم لمصلحة عامة؟! والسؤال الأساسي الآن هو على من نراهن؟ ويجب ويمكن لقوى الثورة أن تجيب عن هذا السؤال في ظل إشكالية التوقيت والإدارة والبديل إجابة تسهم في إعادة ألق الثورة.
شوكت غرز الدين، كاتب سوري، ماجستير في فلسفة العلوم، الايبستمولوجيا.