يشكِّلُ التهجير القسري الذي حصل في داريا نقطة فارقة في عمر الثورة السورية، فهو، وإن تشابه في الشكل مع هجرات كثيرة؛ كان أوضحها في حمص القديمة في الشهر الخامس من عام 2014، إلا أنه يختلف كلياً في المضمون، إن وضعنا في اعتبارنا التوقيت والزمن وموازين القوى الحالية، ورأينا تأثير القوى الدولية المتدخلة بمعظمها ضد مصلحة الثورة، ودور الأمم المتحدة المتواطئ كلياً مع نظام الأسد.
التهجير القسري من داريا، وإخلاء المدينة من سكانها، المدنيين والعسكريين، هو بداية لطريق طويل، سيغير ملامح سوريا، ويغير طبيعة الصراع ذاته إلى غير رجعة، وليس إكمال خِطَّة وخط التهجير نحو المعضمية وحي الوعر في حمص، وربما مضايا والزبداني فيما بعد، سوى خطوات على هذا الطريق.
مع تهجير داريا يكتمل نصاب العداء الطائفي، ويتضح التغيير الديمغرافي، وتثبيت خطوط التماس الطائفية، ويرتفع الانقسام الأهلي إلى مرتبة الجدار العنصري العازل، ويضع إمكانية عودة التعايش أو إقامة الاندماج الوطني في المستقبل القريب في سياق الاستحالة.
يتشكل لدينا في سوريا اليوم ثلاثة فضاءات رئيسة باتت شبه مكتملة؛ وقابلة للتمدد، يتقاسمها كلاً من السنّة والعلويين والأكراد، وهي حاضنة لثلاث مظلوميات تبني أسواراً عازلة حول نفسها، وتبني صدوعاً غير قابلة للرأب بين بعضها البعض، وتؤسس لصراعات عنيفة ومديدة ومركبة في سوريا.
ونحن نسميها فضاءات، لا مناطق، لأنها ليست واضحة المعالم مناطقياً؛ في الوقت الحالي على الأقل، وتسيطر على الرؤوس والعقول والسياسات أكثر من سيطرتها على الأرض، وهي فضاءات ضيقة وعدمية تتجه نحو التوسع بتغذية صراعية خلفية، لتعيد صياغة الواقع وتثبيت حدوده بالدم.
ونسميها مظلوميات بالتوازي، ليس استناداً إلى الظلم الذي كان أكثر من تعرض له خلال السنوات الخمس الماضية هم السنّة، بل استناداً للنظرة الذاتية لكل من تلك المجموعات إلى نفسها، واستناداً للخسارات البشرية الكبيرة؛ بالقياس للحجم الديمغرافي، لكل منها دفاعاً عن ذاتها، واستناداً في المحصلة للعداء المتنامي والمتراكب طائفياً وإثنياً ودينياً وسياسياً بينها.
ليست الطوائف والإثنيات الأخرى، كالدروز والاسماعيليين والآشوريين والسريان وغيرهم، بعيدة عن هذه الأجواء، ولا عن تلك الترسيمة الثلاثية بما فيها من مظلومية وعداء وصراع مستمر، لكن العنف هو ما يصنع الواقع ويرسم فضاءه في سوريا اليوم، وأقصى درجات العنف؛ الذي يترافق هنا مع التهجير والتطهير العرقي والطائفي، هو ما تتعرض له أو تعرضه الثلاثية المذكورة.
يجب التذكير دائماً، أن لا تفاضل ماهوي بين الطوائف والإثنيات، وأن الطائفية هي صناعة سياسية لا وجوداً موضوعياً. لكن العنف المنفلت من كل عقال، يحيّد العقل تماماً ويجعل الطائفية هي خيط النجاة الأسود، كما أن الرعاية الدولية للعنف التي نشاهدها في سوريا، تساعد النظام الطائفي، في فرض طائفيته على الجميع، وتمنع أي أفق عادل للقضية السورية، لكن الخطورة المتأتية عن التهجير الطائفي والإثني، تنبني على نقل الطائفية من حيز القوى السياسية والعسكرية المتسيِّدة، إلى الحيز الشعبي الأوسع، وتبني ذاكرة قهرية “أحفوريّة” عمادها الانتقام وعدم القدرة على المسامحة والتسامح في المستقبل، وينقل العداء من عداء سياسي فوقي، إلى عداء وجودي “تحتي” ومتجذر، لتصبح العداوة هي السياسة، والسياسة هي العداء والنفي وبناء الذات الطائفية سياسياً.
إن المُشتَرَك الأكثر ثباتاً بين جميع الطوائف والإثنيات في سوريا هو الهزيمة، لكن التفاضل في الهزائم والخسائر ليس بلا قيمة في الواقع، فمع أنه لا يجعل من أحد منتصراً، إلا أن حجم الهزيمة وحجم الخسائر يتناسب طرداً مع الانكماش والتعصّب الطائفي وتوليد الطائفية، مثلما يتناسب عكساً مع إمكانية القبول والتعايش فيما بعد، وربما يعطي المثال الكردي القريب في جرابلس صورة ساطعة عن أثر الهزيمة المتوقعة للمشروع الكردي الانفصالي على زيادة منسوب التجييش الطائفي والانخراط في الطائفية وانعدام قبول الآخر، والانكماش نحو نصر الأخوية الطائفية والإثنية على طريقة “انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً” مهما كانت يديّ هذا الأخ مغمسة بالدماء.
إن الطريق الذي يبدو بلا عودة في سوريا، هو طريق الانقسام الطائفي/ الإثني المركّب، وهو الطريق الذي يصل مع تهجير سكان داريا؛ وأخواتها، إلى حدوده القصوى وتخومه الأبعد، وما تتم صياغته دولياً على أنه “تسوية” سياسية، ليس إلا دفعاً للانقسام السوري نحو أبعد مدى ممكن، وتثبيته بالحماية وإنشاء مناطق النفوذ، وهو ما يجعل التسوية مفتقدة لأدنى درجات العدل، بل مساهمة دولية، وبوقاحة عزَّ نظيرها في التاريخ، في دعم نظام الإبادة الجماعية، لتجعل منه الصورة الوحيدة لسوريا القادمة.
ماهر مسعود، كاتب وباحث سوري، ماجستير في الفلسفة الغربية.