علي جبر
ينطلق التمكين المستدام للمرأة من المجال الاقتصادي، ولكنه لا يقتصر عليه، بل يتكامل مع التمكين القانوني والسياسي الذين يُفعّلان دور المرأة في مجتمعها، ممّا يمكنها من لعب دور إيجابي في كافة مراحل بناء المجتمعات والدول، وخاصّة التي تخوض صراعات من أجل التحوّل السياسي.
ينقسم التمكين القانوني إلى قسمين: الأوّل هو المعرفة بالقوانين التتميّزيّة ضدّ المرأة، كقوانين الأحوال الشخصية المتعلقة بالإرث والحضانة، وما يحق لها قانونيّاً وما لايحق، إذ تتنازل كثير من النساء، وخاصّة في حالات الإرث، عن حقوقهنّ كعرف اجتماعي، واعتقاداً منهنّ أنه قانون، بالرغم من أنّ القانون يعطي للمرأة كل بحسب القانون الشرعي الذي تتبع له، برغم عدم عصريّة قوانين الأحوال الشخصية السورية التي لا تعطي بالأساس من الحقوق إلاّ النذر اليسير. أمّا في حالات الحضانة فتعاني المرأة من القوانين الجائرة بحقها، وخاصّة المرتبطة بسن الحضانة بسبب مرجعيّة القوانين في الحالة السورية؛ إذ يوجد لكل طائفة قانون خاص بها يحكم أحوالها، ولكنها تتفق على التمييّز ضدّ المرأة، وممّا يزيد المعاناة عدم وجود قانون مدني يُلجَأ له في حالات الخلاف. والأهم هو التمييّز في قوانين العقوبات في نفس الجرم بين النساء والرجال، ما يعطي أفضلية للذكور بسبب البنية البطريركية للمجتمع.
في حالة الحرب التي تحوّلت لها الانتفاضة السورية، ومع غياب أو تغييّب الكثير من الذكور في المجتمع كونهم وقود الصراع الجديد، فقد برزت إلى السطح الكثير من المشاكل الناجمة عن عدم المعرفة بالقوانين، منها منع الأم من الانتقال مع أطفالها من بلد إلى آخر بسبب عدم وجود ولي أمر، أو تغيب الرجل لعدّة سنوات، مثل حالات الاعتقال أو القتال في مناطق أخرى، ممّا يعيق متابعة المرأة لحياتها، ويخلق مشكلة مركبة في ثقافة المجتمع الذكورية، التي تفترض بالمرأة أن تكون تحت رعاية زوجها أو أبيها أو أخيها، الأمر الذي قد لا يكون متوفراً في كثير من الحالات؛ فهي إن كانت متزوجة، فموقفها مُحرِج في نظر المجتمع إن أرادت الانفصال بسبب غياب زوجها لمدة طويلة، وبقائها مرتبطة بموجب القيود المدنية يرتب عليها تبعات تمنعها من الانتقال عرفيّاً وقانونيّاً بمفردها مع أطفالها. الوجه الآخر للمشكلة أنّ ما يفترضه المجتمع حالة طبيعية، وهي وجود أيّ من الرجال قد لايكون متوافراً، وبالتالي يحاسب المجتمع المرأة على وضع لم تختره، ولا يتوفر أيّ من مقومات وجوده.
أمّا في بلدان اللجوء فتظهر المشكلة بوجه آخر، فالمرأة مضطرّة لمتابعة حياتها في ظلّ قوانين جديدة لا سابق معرفة لها بها، الأمر الذي تعمل عليه منظمات نسائيّة من المجتمع المدني في تلك البلدان عبر تقديم مشورات قانونية لمساعدة النساء، كما تقدم المساعدة لمن تحتاج من النساء إلى طلب الانفصال القانوني لمتابعة حياتها، علماً أنّ القوانين الدينية تفرض تبعيّة في حالة الزواج تضطّر المرأة للتحرّر منها في حالات عدم وجود الزوج.
لقد فاقمت الحرب من مأساة الجهل بالقوانين بالنسبة للنساء، فهنّ ضحايا في حالات الحرب على أكثر من جهة، بسبب فقدان المعيل والاضطرار إلى الخروج من الإطار التقليدي ومواجهة العالم الخارجي منفردة، مع جهلٍ بالقوانين التي تحميها وتحدد واجباتها وحقوقها. معرفة هذه القوانين كانت لتسهّل كثيراً من خروج المرأة إلى سوق العمل، وتخفف من وطأة المواجهة مع ظروف لم تألفها المرأة من قبل.
لذلك يشكل التمكين القانوني المُستدام للمرأة رافعة مهمّة لوضع ومستقبل المرأة في كافة الخيارات التي تقف عندها سوريا في المرحلة الحاليّة، سواء الانتقاليّة أو في ما بعد، حيث يفترض أن تلعب المرأة دوراً مهمّاً في سوق العمل وفي المجال العام المدني والسياسي. وعليه فإنّ التمكين القانوني مدخل للتمكين السياسي للمرأة للقيام بأدوارها كافّة، الأمر الذي يساهم بشكل كبير في لملمة الجراح بعد الحرب.
إذ تشكّل المرحلة الانتقالية وما بعدها مناخاً للعمل المدني والسياسي الذي حرم منه المجتمع السوري لعقود مضت، والذي كان غيابه أحد عوامل انحراف الانتفاضة إلى العمل المسلّح، لذلك تبرز الحاجة إلى المجتمع المدني بكافة أطيافه، ومنها المجتمع المدني النسوي الذي يحمل عبئاً كبيراً في رفع الوعي والنضال لتحسين ظروف المرأة، كشريحة تجاوزت كونها نصف المجتمع نتيجة الصراع ومخلفاته الاجتماعية. حيث تشكّل مشاركة المرأة السياسيّة دوراً مهماً في التعبير عن كافة شرائح المجتمع، ممّا يتيح تمثيلاً عادلاً للمجتمع في الطبقة السياسية، ويُشكّل تعبيراً عن المدى الذي وصل إليه تطوّر المجتمع ونضجه من ناحية التزامه بالقيم التي نادت بها الانتفاضة من حرية وكرامة وعدالة.
ولا يقتصر التمكين السياسي المُستدام على المرحلة المقبلة بل يبدأ من الآن، بضرورة تسليط الضوء على التجارب الناجحة لمشاركة النساء في الدول التي شهدت تحوّلات ديمقراطية والدور الإيجابي الذي لعبته النساء. في تونس مثلاً كانت “وداد بوشماوي” رئيسة الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية أحد رؤساء الحوار الرباعي الذي حصل في تونس، وساهم في التحوّل الديمقراطي، وكانت “بوشماوي” من الرباعي الذي حصل على جائزة “نوبل للسلام” نتيجة الحوار الوطني الذي أدّى إلى انفراج في المجال السياسي التونسي.
في هذا الإطار تشكّل منظمات المجتمع المدني النسويّة مجالاً مهماً لمطالبة الحكومات بتحسين القوانين المُجحفة بحق النساء، من خلال عملها على حملات الضغط، والحشد للقضايا التي تهم المجتمع، كما حصل في لبنان مع حملة (الأبيض ما بيغطي الاغتصاب) التي أدّت إلى تعليق العمل بالمادة التي تسقط جرم الاغتصاب في حال تزوج المغتصب من الضحية.
هذه أمثلة للمشاركة السياسيّة للمرأة على كافة المستويات، سواء خارج الإطار النسوي، أو في حال النضال لمناصرة قضايا المرأة التي لا تنفصل عن باقي القضايا السياسيّة، وتعبّر عن درجة تقدّم المجتمع في مجال التشريعات التي تحمي المرأة.
لذلك يشكّل التمكين القانوني والسياسي المُستدام المدخل لتحريك المياه الراكدة في المجتمع السوري الذي حرم لعقود من المطالبة أو المشاركة في وضع ما يحتاجه من تشريعات وقوانين، ولا يمكن الانطلاق إلى المطالبة بتحسين القوانين والتشريعات دون وعي من شرائح المجتمع كافة بالقوانين الموجودة، ومدى عدم ملاءمتها للمُتطلّبات الحاليّة، وانخراط الفئات التي تملك المعرفة في النشاط المدني للمطالبة بتحسين القوانين والتشريعات، والأمر لا ينحصر في ضرورة المطالبة بتحسين التشريعات، بل بدءاً من الدستور الذي يكفل للجميع حقوقاً متساوية كمواطنين.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج