ستلجأ بعض الأطراف المتصارعة في سوريّة للتفاوض لعدم قدرتها على إخضاع بعضها البعض وكسر الإرادات فيما بينها أساساً. فالتفاوض وجه آخرَ لانعدام القدرة على الحسم العسكريّ. وبالرغم من استناد التفاوض إلى مكتسبات القوّة، إلّا أنَّه لا يظهر إلّا استناداً إلى إفلاس الحسم العسكريّ في الإخضاع، ويغيب باستمرار الحسم العسكريّ ويكون عقيماً وصفريّاً لا رابح فيه. وما حصّلته الأطراف المتصارعة بالقوّة يكافئ ما ستحصّله بالتفاوض.
وتعترض هذا التفاوض، المزمع انطلاقه في 25 الشهر الحالي استناداً لقرار مجلس الأمن رقم 2254 عدة عقبات؛ منها ما يتعلق بالقرار نفسه وأخرى تتعلق بشروط القوى المتصارعة ومطالبها، وثالثة تتعلق بالوضع الميداني ومحاولات تغييره قبل التفاوض. وهو القرار الداعي للتفاوض بين المعارضة والنظام للبدء بعمليّة سياسية في سوريّة؛ للوصول “لانتقال سياسيّ” بعد تشكيل “هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيَة”، بموافقة الطرفين، تعمل على صياغة دستور جديد وتحضِّر لانتخابات مُراقبة دولياً يشارك اللاجئون خارج سوريّة فيها والنازحون ضمنها، بهدف أنْ يتحقق “وقف شامل لإطلاق النار”.
وبالرغم من التشديد الروسي/الأميركي على بدء المفاوضات بدون شروط مسبقة، نجد الروس وديمستورا يضعون الشروط قبل الانطلاق، كعقبة فصل المسار الإنساني عن المسار السياسي التي تسكت عن الهدف السياسي المرجو من الحصار وتسكت عن المجرم الذي قرر ونفذ الحصار. وعقبة تحديد التنظيمات الإرهابية التي ستوصي الأردن بها حسب قرار مجلس الأمن، والضغط الروسي لضم حركة أحرار الشام وجيش الإسلام إلى القائمة، واستثناء التنظيمات الكرديّة والشيعيّة منها. وعقبة تشكيل الوفد المفاوض إزاء النظام؛ إما بضم عناصر إليه أو بتشكيل وفد ثان يشارك بعملية التفاوض بالتوازي مع الهيئة العليا للتفاوض المنبثقة عن مؤتمر الرياض، حسب الطرح الروسي الذي حدد قائمة من 15 شخصاً.
ويحمل قرار مجلس الأمن هذا مفارقات عديدة بالنسبة للوضع الميداني وللوقائع الراهنة يجب -ويمكن- البحث فيها حتى تتضح مثل هذه المفارقات للرأي العام السوريّ فيأخذ موقفاً منها:
– تأجيل البدء بعملية التفاوض حتى أواخر كانون ثاني/ يناير رغم تأكيد القرار على بدئها في أوائل كانون ثاني/ يناير يؤشر إلى إعطاء فرصة لعرقلة القرار بمسألة تحديد قائمة التنظيمات الإرهابية، واختيار الوفد المفاوض، والسعي لفصل المسار الإنساني عن المسار السياسي، من جهة، ومن جهة أخرى تغيير المعطيات على الأرض من قبل النظام الذي يسابق الزمن لفرض وقائع جديدة قبل بدء التفاوض، ضارباً بإجراءات بناء الثقة الواردة في القرار عرض الحائط.
– بالرغم من تكرار التأكيد في القرار على أنه ما من حل دائم للأزمة الراهنة في سورية إلا من خلال عملية سياسية جامعة بقيادة سورية تلبّي التطلعات المشروعة للشعب السوري، وبالرغم من تسليم القرار بالصلة الوثيقة بين وقف إطلاق النار وانطلاق عملية سياسية موازية نجده يُحدِّد الإرهابيين الذين لا يشملهم وقف إطلاق النار بداعش والنصرة أساساً وما ستوصي الأردن به “للفريق الدوليّ لإنهاء النزاع في سوريّة” بمراجعة “مجلس الأمن” للقضاء على الملاذ الآمن الذي أقامته تلك الجماعات على أجزاء كبيرة من سورية. ويلاحظ أن وقف إطلاق النار المذكور أعلاه لن يطبق على الأعمال الهجومية أو الدفاعية التي تنفذ ضدّ هؤلاء الأفراد والجماعات والمؤسسات والكيانات. ولكن الاتفاق الأخير بين داعش والنظام برعاية الأمم المتحدة الذي قضى بخروج قرابة 3000 مقاتل من داعش من مخيم اليرموك والحجر الأسود بسلاحهم الفردي وعلى مرأى الجميع يثير التساؤلات والشكوك حوله، على اعتبار أن الجميع سيقاتل داعش ولا يفاوضها. وقبله اتفاق “الزبداني/الفوعة وكفريا” الذي تم البند الثاني منه بخروج الجرحى إلى بيروت وتركيا، وهو اتفاق مع “حركة أحرار الشام” التي يجهد الروس لتصنيفها إرهابيّة.
– غضّ النظر عن إجراءات بناء الثقة -المرتبطة بروسيا والنظام وإيران- رغم ضرورتها بالقرار وبما يخالف البند العاشر منه؛ والذي يحّث على ضرورة إجراءات بناء الثقة. وما حدث في الأيام القليلة الماضية في الوعر والمعضميّة والشيخ مسكين والغوطة الشرقية، واغتيال قيادات تمثلت في مؤتمر الرياض كـ”زهران علوش” يُدلِّل على فرض الوقائع لا على إجراءات الثقة وذلك بدون حتى قلق وشجب من “مجلس الأمن” أو “الفريق الدوليّ”! وهذا تأمين لمحيط دمشق كورقة تفاوضية يمكن أنْ يطبق فيها وقف إطلاق النار.
– ضغط روسي لقولبة توصية الأردن الهادفة لتصنيف الأفراد والجماعات والتنظيمات في قائمة الإرهاب، وللتدخل في الوفد المفاوض.
– من الواضح إقصاء تنظيم الدولة وجبهة النصرة وغيرهما من المفاوضات، والاستمرار بالحسم العسكريّ إزاءهم، رغم تأكيدات الجميع على الحل السياسيّ، الشيء الذي لا يؤدي إلّا لمزيد من استنزاف السوريّين.
– نسمع منذ بداية الثورة أنَّ الحسم العسكريّ غير مجدٍ وأن لا بديل عن الحل السياسي. منذ ما يقارب الخمس سنوات يومياً في سوريّة محاولات الحسم العسكريّ العديدة والمتنوعة التي يقوم بها كل من النظام وإيران وروسيا ومليشياتهم الإرهابيّة. فمنذ تدخل الروس في 30 أيلول/سبتمبر يتم العمل على تلازم الحسم العسكري والحل التفاوضي في آن بما يتناسب مع الروس. وتدرجت حربهم لتطال الجميع مدنيين وجيش حر. بينما يؤكد القرار وقف إطلاق نار شامل يستثني مناطق الإرهابيين وأنَّ سوريّة “دولة غير طائفية” وذات سيادة!.
إنَّ السوريّين على موعد مع تفاوض عقيم في حال استمرت محاولات الحسم العسكري، ويمكن أنْ يتحول إلى تفاوض مثمر جزئياً بالابتعاد عن محاولات الحسم العسكري، ولكنه بالمآل الأخير تفاوض ناقص لإقصاء أطراف صنفت إرهابيّة واستثنيت مواقع سيطرتها من وقف إطلاق النار. إنَّ السوريّين إزاء خيارين لا ثالث لهما: إما بقاء الوضع على حاله والتعايش والتكيف والتأقلم مع الحالة الراهنة لأمد بعيد، أو الدخول في التفاوض على قاعدة الجميع رابحين
شوكت غرز الدين، كاتب سوري، ماجستير في فلسفة العلوم، الايبستمولوجيا.