بشرى البشوات
يمكن إدراج العنف الإلكتروني باعتباره إلحاق مُتعمّد بقصد إحداث ضرر نفسي ومعنوي واجتماعي بالغير، تحت وصف جريمة، وقد انتقلت من مسرح العالم الواقعي إلى سماء العالم الافتراضي، الذي يشهد ترحيل القصور الأخلاقي من عالم البشر العياني، بما هو عامل أساسي بين عوامل أخرى لإحداث الجريمة وإتمام أركانها، إلى فضاء العلاقات الافتراضيّة الذي تمثله وسائل التواصل الاجتماعي على اختلاف مُسمياتها.
ولعلّ ما يحدث للناشطات السوريات (أو للبعض منهنّ) على الصعيد السياسي والإعلامي يُعتبر من العلامات البارزة على هذا الصعيد، وهو يندرج في سياق العنف مُتعدّد الأشكال ضدّ المرأة في مجتماعاتنا التي تعاني على صعيد العلاقات بين الرجال والنساء أوجه قصور مُتعددة، واختلاﻻت فادحة في نسيج اجتماعي هو مُعتل أساساً، ويعاني نقصاً فادحاً وتاريخياً في منسوب الوعي الحداثي، يسنده تخلّف ورثاثة المدوّنة القانونية التي أغمدتها السلطة السياسية، لتغدو مُجرّد هيكل ورقي مُفرغ من أي مضمون واقعي، تدوسه السلطة متى شاءت.
في هذا الإطار يمكن فهم العنف ضدّ المرأة، والعنف الإلكتروني كجزء منه، بوصفه إنعكاساً لترابط ثلاثة مستويات على نحو منظومي، هي مستويات الوعي العام ما دون حداثي الذي يعيّن علاقة مُتخلّفة وتسلّطية بين الرجل والمرأة، وغياب المدونة القانونية الفاعلة التي من شأنها الحدّ من جرائم العنف مُتعدّد الأشكال، وكذلك غياب الحداثة السياسية عن الدولة ومؤسساتها، بما فيها السلطة التي أغلقت المسرح السياسي على نفسها وصادرت الوعي والقانون، وبهذا لوّثت المناخ الذي يمكن للوعي والقانون أن يتطوّرا وينموا في ظله.
ﻻ يعني الحديث عن العنف ضدّ المرأة، ومنه التشهير، أنّ بقية المجتمعات تخلو تماماً من هذا الراسب الجرمي؛ فالوقائع تشير إلى وجود مثل هذا الخلل حتى في مجتمعات تعتبر متقدمة علينا في كل النواحي، لكن هذه المجتمعات قطعت أشواطاً هائلة على طريق الحداثة، ومن ذلك أنها طوّرت آليات قانونية للحد من هذه الجرائم، فضلاً عن نمو هائل في مستوى الوعي العام، ومنه علاقة الرجل بالمرأة، أو لنقل علاقة الكل بالكل على نحو يحدّ من الانتهاكات بحق الغير. وهذه المجتمعات، إلى ذلك، تعيش سيرورة نمو دائمة، قانونيّة وسياسيّة وحقوقيّة وأخلاقيّة، تستطيع بآلياتها المختلفة على الأصعدة المذكورة أن تسيطر على ما قد ينجم عن الصعود التقاني، وما يرافق هذا من خلل في البنية الاجتماعية.
في حين أنّ مجتمعاتنا تهمين عليها ثقافة العنف لأسباب مختلفة، وبالتالي يمكن الحديث عن التشهير أو العنف الإلكتروني بوصفه جزءاً من ظاهرة العنف العام.
في قضية التشهير ثمّة استبطان لعدم الاعتراف بالآخر المختلف، وﻻ سيما حين يكون المختلف هو المرأة، طبعاً ﻻ يعني هذا أنّه ليس هناك تشهير بحق رجال أيضاً، إنّما قد تكون المرأة هي الأوفر حظاً على صعيد العنف الإلكتروني، خاصّة وأنّها غالباً من يُعاني من اضطهاد مزدوج لأنّها مختلفة أوﻻً، ولأنّها امرأة ثانياً في مجتمع أو مجتمعات تسيطر عليه السلطة الذكوريّة.
هل يكفي امتلاك وعي الاختلاف لتصحيح مسار العلاقة بين الرجل والمرأة؟ أو بمعنى أوسع: هل يمكن لإرساء ثقافة الاعتراف بالآخر المُختلف واحترام حرّيته وخصوصيته وحقّه في التعبير للقضاء على جملة أشكال العنف ﻻ سيما الإلكتروني منها؟
ما من شك أنّ هذا الوعي سيكون له دور في غاية الأهمية للحد من هذه الاختلاﻻت، لكن الوعي، بما أنه عمليّة تراكم تاريخي، فلن يكون أمر إحرازه في مستطاع مجتمعاتنا اليوم. هذا يعني أنه ﻻبد من مداخل قانونية من قبل ومن بعد لمكافحة الجريمة بأشكالها.
لكن بالنظر إلى حالة عدم الاستقرار الذي يعيشه مجتمعنا السوري يغدو الانتقال السياسي مدخلاً ضرورياً ليس فقط للاستقرار بل للتوثب نحو جدليّة ينتجها المجتمع السوري بشأن الحريّة والقانون. يمكن لهذه الوثبة أن تحوّل الوعي بالآخر والاعتراف به إلى ظاهرة ثقافية مُستدامة في رحاب المجتمع السوري، تشكل ردعاً ذاتياً يتعزز بالردع القانوني الذي تبثه مدونة قانونية ثابتة ومستقرة ومتطورة وذات أنياب.
في سياق الثورة السورية قفزت المرأة إلى تموضعها الطبيعي، بوصفها كائن اجتماعي سياسي له الحق في التعبير وفي إبداء الموقف المؤثر والفاعل، وعليه واجب الإسهام في صناعة الحرية ونيلها.
ومن هنا كان انتقالها من قاع المجتمع إلى واجهة الحدث السياسي والإعلامي والإغاثي للثورة، وأصبحت في قلب المشهد السوري العام والثوري منه، ودفعت ثمناً باهظاً في سياق التضحيات التي بذلها المجتمع السوري لبلوغ الحرية من سلطة الاستبداد والإجرام، فكانت ضحية الاعتقال الرهيب والحصار المميت والقصف الهمجي الذي ﻻ يبقي وﻻ يذر.. وأخيراً طالتها جريمة التشهير وهذا ما يبعث على السؤال: هل تكافئ المرأة بعد كل ذلك بالتعنيف إلكترونياً؟
يبدو أنها ستبقى إلى أمد ليس بالقصير ضحيّة وعي عام رثّ ومتخلف، ووعي ذكوري متسلّط ومستبدّ يقبع في أساس البنى التقليدية العنيفة والمتخلفة.
بكثير من اليقين نستطيع القول إن الجهد الثوري لبلوغ الحرية هو جهد أنثوي في أحد أبرز مضامينه؛ لأن المرأة هي المتضرر الأكبر من غياب الحريات وطغيان الاستبداد بأشكاله المختلفة، وبهذا المعنى يغدو الحديث عن المرأة التي تخوض في ثورتين، حديثاً مشروعاً: ثورة ضد الاستبداد بحق عموم المجتمع، وثورة ضد الطغيان الذكوري على المرأة.
هذا يعني أن وعي الحرية هو أفق الوعي الاجتماعي الذي يفسح في المجال لتغيير معادﻻت العلاقة الاجتماعية والسياسية والقانونية والأسرية بين الرجل والمرأة، سواء في عالم الواقع أو في عالم الافتراض، حينئذ ربما سينتفي العنف والتشهير بحق الناشطات.
*ضمن ملف العنف الالكتروني الموجه ضد النساء بالتعاون مع شبكة الصحفيات السوريات
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج