لمّا ذكرت لها إن أكثر العبارات تكراراً إذا تحدثت عن ذكرياتي مع أصدقائي هي من مثل: “الله يرحمه/ـها، الله يفك أسره/ـها، الله يرده/ـا بالسلامة..”! وإن هذا حتماً من علامات الشيخوخة، ظننت أن الشابة الصغيرة تحاول مواساتي عندما قاطعتني: “وأنا كذلك”!
هربت إلى المزاح: “..وعندك الخرف وفقدان الذاكرة، وآلام المفاصل..” لأن لا أستغرق بالتفكير بصبية/ طفلة بنصف عمري، لها أصدقاء ميتون ومعتقلون ومنفيون!
وتذكرت أنها أيضاً تعاني مما هو أقسى من ذلك كلّه؛ المصير المجهول! هي لا تعرف إن كان أبوها حيّاً أم ميتاً منذ اعتقاله قبل عشر سنوات.. وهي مثلي تتلبك وتلغمط الكلام عندما تذكر والدها أو أصدقاء مغيبين؛ فلا تعرف هل تترحم عليهم أو تدعو لهم بالإفراج.. وقد تتحاشى ذكرهم من أصله!
في هذا السياق، تصدّع رؤوسنا تأكيدات “منطقية” لمحللين متذاكين مثل: “كل من اعتقل قبل 2013 هو ميت” أو: “معتقلو داعش غالباً تم ذبحهم لأن داعش انتهت” وأيضاً: “لا بد أنه تمت تصفية مخطوفي الغوطة لأن كل الفصائل خرجت منها في 2018”.. وتحليلات أخرى مثلها، سأدعها جانباً الآن.. ليس لكونها عديمة الإحساس فحسب، ولكن لأنها محض ظنون، و”إن الظنّ لا يغني من الحق شيئاً”، وإن بلغ رتبة شهادة وفاة يصدرها النظام الكذّاب بأسماء معتقلين ومختفين في سجونه.
نستطيع التعميم -دون مجازفة- أن الاعتقال هو واحد من موضوعات ملازمة لكوابيس، لا تنفكّ تراود السوريين والسوريات، أينما كانوا.. الزنزانة أو الاعتقال مع التعذيب، بالإضافة للتجنيد العسكري، والعودة للمدرسة أو للامتحانات (البكالوريا أو غيره) والسقوط من شاهق..
وقد تكون كوابيس جنرالات التعذيب أو اللصوص الأغنياء والمستكبرين والشبيحة وصغار الموالين هي أن تنقلب الأدوار. ولا أعرف بالضبط بم (يكوبس) الآخرون ممن ينتظرون في البرد على طابور الغاز أو الوقود أو الخبز.. فهم يعيشون الكابوس واقعاً لا صحواً مرجو منه!
…
في قضية المغيبين والمختفين قسراً، يقفز البعض من مطلب معرفة الحقيقة إلى العمل من أجل محاسبة المجرمين..
وهكذا.. نتجاوز كل الجرائم الأخرى، ولنحاسب جيش الإسلام عن جريمة اختطاف سميرة الخليل ورزان زيتونة ووائل حمادة وناظم الحمادي، وغيرهم كثر. ولنحاسب تنظيم داعش عن اختطاف الأب باولو وعبد الوهاب الملّا وسمر الصالح ومحمد العمر وفراس الحاج صالح ومحمد نور مطر، وغيرهم أيضاً. ولنحاسب النظام المجرم وأزلامه عن تغييب قائمة طويلة بأكثر من 140 ألف مواطن سوري في سجون التعذيب..
ولو اختلفنا أو اتفقنا حول جدليات “المحاسبة طريق الحقيقة” أو “الحقيقة أولاً” أو “العدل ولو انهار العالم”..
لن نختلف أن كل تلك المقاربات لا تعيد ما فات، ولا تجبر الكسر وإن رمّمته، وقد نسمي بقاء الأم، على قيد الأمل، وهي تنتظر ابنها المعتقل/ المختطف أو زوجها أو حبيبها، إنكاراً أو مكابرة، وقد ننصحها -رفقاً بها- أن تتصالح مع واقع الغياب الدائم الأبدي. وهذا غشّ محضّ؛ فمن أبسط حقوقها، بعد مصيبتها، أن تعرف مصيراً -أكيداً- لمحبوبها في حال تعذّرت عودته.. أن تعرف المصير، ولو كان قبراً يضمّ رفاته.. أن تستلم متعلقاته.. أن تعرف وصيته وكلماته الأخيرة.. أن تحصل على جواب لأسئلة غير منتهية تخربط بالها وحياتها.. أن تكون متأكدة..
لهذه الأم ولنا، نطلب الحق اليقين أولاً، لنطفئ نار الانتظار، ونغلق غرفة التعذيب بالشكّ، ونحاول متابعة العيش مع جروحنا وندوبنا، بعيداً عن تخرصات موضوعية، فيزيائية ورياضية و”عدالاتية” وسواها..
ناشط وصحافي، رئيس تحرير مجلة طلعنا عالحرية، ومدير مكتبها في دوما / الغوطة الشرقية سابقاً، إجازة في الآداب من جامعة دمشق قسم اللغة الإنكليزية، مدير مكتب الحراك السلمي السوري في ريف دمشق.