مجلة طلعنا عالحرية

التحديات الشائكة على درب النساء السوريات

هنادي زحلوط

لم تكن صورة المرأة التي سحقها سقف منزلها جراء القصف الجنوني على مدينة الرستن سوى تكثيفاً لما أصاب النساء السوريات من مآس تتابعت عليهن منذ أكثر من خمس سنوات. المرأة التي انهار سقف منزلها بفعل القصف المتوحش كانت جريمتها الوحيدة أنها اختارت البقاء لحماية ورعاية عائلتها، فكان أن لاقت حتفها في سبيل ذلك. وبالطبع فإنّ من حالفها الحظ من بقية النساء السوريات واهتدت إلى طريق للخروج من هذا الحصار مع عائلتها لم تكنّ متأكدات أنهنّ أصبحن أفضل حالاً؛ فخيمة اللجوء الحقيرة التي لا تقي برد الشتاء ولا قيظ الصيف جعلت حياتهن جزءاً من سيرة الشظف لشعب بكامله.

عانت هؤلاء النسوة من نقص الماء وقلة الطعام، وعانى أطفالهنّ من شح فرص التعليم، وأطلقت الصيحات مراراً لجمع الملابس الشتوية لهم، لكن النزيف من داخل سوريا جعل الاحتياجات تزداد باستمرار، مما زاد في معاناتهن من هذا الواقع. وبرغم عدم امتلاك هؤلاء النساء في أحيان كثيرة المؤهلات اللازمة فإنهنّ كنّ معنيات بإعالة أسرهن، رغم نقص التعليم الذي عانته بعضهن، وكان ذلك أشبه بمحاولة الحصول على مصباح كهربائي من زجاج مُهشّم وبضع أسلاك شائكة!

كانت النساء السوريات على قدر التحدي رغم كل شيء؛ فأنشأنّ المدارس في المخيمات، وتطوّعت المتعلمات منهن لنقل علمهن إلى جيل الحرب والنزوح، وحاولنّ زرع الابتسامة على شفاه تشققت من ملوحة الدموع، واستطاعت الكثيرات أن تخرج الأطفال من تحت ذكرى المجازر والدم والبارود والركام للعب تحت قوس قزح.. ربما صنعنه بالأمل فقط.

ولم تكن النساء السوريات واقعات تحت تأثير الواقع الاقتصادي المُر فقط، ولم تكف الخيام لرد المتطفلين عن التربص بهنّ، فكان أن انتشرت عصابات الاتجار بالبشر، مرّة تحت عنوان الإنقاذ من هذا الواقع، ومرّات كثيرة وصل الأمر لارتكاب جريمة تزويج القاصرات باسم هذا الواقع، بدلاً من السعي لتغييره وتحسين ظروفهن وكفاءاتهن. وتحت الخيمة هذه وفي بلدان اللجوء والشتات، كان الحنين والتعب يتجاذبان مشاعرهن يمنة ويسرة؛ نساء أجبرن على ترك منازل لطالما أسهمن في بنائها وتأثيثها، حلماً حلماً.. وفي غفلة من القدر وجدنَ أنفسهن مجبرات على تركها. وتجدهن اليوم يجلسن ليتذكرنها حجراً حجراً، وبلاطة في إثر بلاطة، ويسألن من بقي من الجيران أن يطمئن عليها، وتُكسر قلوبهن إن سمعن أنّ صاروخاً أو قذيفة قد اخترقتها!

نساء تحترق قلوبهن اليوم على أطفالهن، إن خطر ببالهن طبق لا يستطعن اليوم تحضيره لهم، أو رأين في عيونهم حسرة على أمس كان لديهم فيه وفرة من الألعاب ووفرة من أمل بغد جميل، أحلام ربما تبخرت اليوم في جهنم هذه الحرب التي لا تلوح نهاية لها. وبين من فقدت زوجها شهيداً أو معتقلاً أو مفقوداً وجدن أنفسهن أمّاً وأباً، وأختاً وأخاً.. مزيج من الحنان والرجولة كان لابد أن يتحلين به وسط ظرف صعب حرمهن رؤية أحبتهن، ووضعهن وجهاً لوجه مع واقع لم يكن لديهن الوقت للاستعداد له.

إلاّ أنّ النتائج الملفتة لكثير من الطلاب السوريين في الاغتراب واللجوء أصبحت مؤشراً على أن هنالك نساء أخرجن من الضعف قوة، وحاولن بجهد مضاعف تعويض العطب الحاصل بغياب الأب، فوضعن صورته نصب عيون أطفالهن وخلقن لديهم الحافز لإخراج كل قدراتهم العلمية ومواهبهم الفنية.

وفي المقابل خلقت الحرب والواقع الراهن ظروفاً معقدة للعلاقات الإنسانية وتشابكاً رهيباً، فتضاعفت تحديات تربية الأطفال كما الخوف على انجرارهم لواقع سيء، ورسخت أكثر فأكثر القيم الإنسانية العليا كالحب والعدالة والمساواة، واستشعرت الكثير من النساء الظلم الذي ربما ألحقنه دون أن يدرين بطفلاتهن، والتمييز الذي وقع عليهن بالتالي وورثنه لهن.

في النهاية كان طبيعياً أن ترتفع الأصوات المطالبة بالطلاق في صفوف النساء السوريات اللواتي وجدن أنهن يدفعن الفاتورة الأكبر في الواقع الجديد، وبالمقابل ظللن تعانين التمييز الذي كن يعانينه في سوريا، الفرق أنهن اليوم بتن أكثر وعياً، وفي مجتمع يعطيهن الحق بالانفصال إن وجدن أنهنّ مُتضرّرات من هذه العلاقة. ومع ازدياد هذا الوعي لا شك بأنّ نظرة النساء السوريات لأنفسهن وإدراكهن لحجم معاناتهن ولطريقة تعاملهن مع مشكلاتهن تغيرت، لكن بقي الواقع يضغط عليهن عاطفياً بشكل كبير، فكان طبيعياً أن تتراوح ردة أفعالهن بين العاطفي والعقلاني. تلك الحقوق التي وعتها النساء السوريات هي ذاتها التي كنّ بحاجتها قبل الثورة، لكن الوعي والتجربة قد مكنهنّ اليوم بشكل أكبر من اختبارها.

المسألة الأخرى أنّ الهيئات الحقوقية والسياسية بوجه عام، والتي عانت نقصاً في المشاركة النسوية فيها، لم تتبن مقولة المواطنة منهجاً لها، رغم المشاركة الكثيفة للنساء في كافة المناحي الإغاثية والإعلامية والحقوقية، والعائلية اليومية فوق كل ذلك. وظلّ ينظر إلى طرح حقوق النساء السوريات على أنه ترف فكري وبريستيج في غير مكانه، وتساق لذلك صور الموت اليومي، والقتل الممنهج ضدّ النساء والرجال والأطفال على حد سواء، رغم أنه وعلى سبيل المثال فإن المرأة السورية المعتقلة تعاني اجتماعياً ما لا يعانيه المعتقل السوري الرجل، وأن السياسية السورية تعاني اجتماعياً كذلك ما يفوق معاناة السياسي الرجل، فقط لتمييز اجتماعي يرزحن تحته لكونهنّ “نساء”!

وإذا كانت سوريا اليوم محتاجة لعدالة انتقالية تعيد لكل ذي حق حقه، فإنّ ما يزيد على نصف المجتمع السوري، لا بل كل المجتمع السوري معني بالمطالبة وإعادة الأمور لنصابها ورفع شعار المواطنة، وإلغاء التمييز بين المواطنين عرقياً أو جنسياً أيضاً.

Exit mobile version