Site icon مجلة طلعنا عالحرية

البعد هو اتساع المدى

صورة توضيحية - وكالات

بشرى البشوات

أحاول أن أنظر إلى هذه المدينة بقلب المحب، لا بعيْنه، بعد ثلاث سنوات من الإقامة الرسميّة هنا. لقد حفظت شوارعها ومناطقها وطرقاتها الأساسيّة وصار بإمكاني أن أستدل على أي مَعلم فيها بسهولة ويسر، لقد تعلمت هنا وللمرة الأولى كيف أستخدم خرائط (GPS) وصرت أعرف قراءة مواعيد الرحلات في كلّ من الحافلات والقطارات.
أنا بعافية قليلاً، بعد ثلاثة أعوام وبُعد، من السكن في مدينة ساحلية، بمحاذاة بحر البلطيق (المسطح المائي الأكبر الذي تمتزج فيه المياه المالحة بالعذبة) ربما هذا يفسر ليّ شعوري المتناقض جهة هذا البحر بين الحب والكره ويخلق عندي بُعداً ما!
أنا بعافية قليلًا.
لم يعن لي البحر شيئاً سوى حزني على أميّ التي لم تره ولو لمرة في حياتها!
أعيش في عاصمة المقاطعة، يبعد بيتي عن مركز المدينة ما يقارب ثلاثة كيلو مترات، في حين كان يبعد بيتي في دمشق عن مركزها ما يقارب عشرة كيلو مترات.. شتان بين البعدين!

الأبعاد: لا أحب أن أدخل في لعبة حسابية، أقنع نفسي بأنني كنت وما زلت أعمل فقط بجزء دماغي الذي لا يحب ولا يجيد الأبعاد والحساب.
يقول البروفيسور ستيفن ويلسن من كلية لندن الجامعية لموقع لايف ساينس: “إن عدم تماثل الدماغ أمرٌ جوهريٌ لوظيفة الدماغ السليم”، ويكمل قائلاً: “إن عدم التماثل يسمح لجانبي الدماغ بأن يصبحا متخصصين، مما يزيد من سعة عملياتهما ويمكنهما من تجنب حالات التعارض حيث يحاول كل من جانبي الدماغ أخذ المسؤولية”.. أخذ المسؤولية في أي شيء؟
ربما في انتقاء طرفي البعد!
في كلية الآداب في دمشق، تلك الكلية التي دخلتها بسنّ متأخرة، تماماً مثل كل أشيائي المفصلية في الحياة أصلها متعلقة بالقاطرة الأخيرة، لدي الشجاعة للاعتراف بأنني لا أركض كفاية، لأنني قبل ذلك لم أصل ولا إلى أي محطة في الموعد المحدد. أنا مثلاً تأخرت بإكمال دراستي.. تأخرت في بيت أبي، فتأخرت في الحب ثم تأخرت في الزواج.. لكنني بالطبع هرولت بأقصى ما لدي جهة الأمومة.
تأخرت في الخروج من سوريا بعد الثورة لأنني تأخرت في معرفة البعد بين الشك واليقين، أو بين الفراق والحنين. الفراق والحنين يتناسبان طردًا!
ها أنا أعود إلى الرياضيات، في كلية الآداب في دمشق، وفي فترات الاستراحة، ونحن نبدد الوقت الأبله في شرب القهوة، كنا نتبادل الأسئلة: نتحدث عن البيوت، عن الطريق والبعد، كانت أسئلة من ذلك النوع الذي لا حاجة فيه لمران الذاكرة، في ذلك الوقت وتلك السنّ سمعت لأول مرة باحتفال الهالوين، وحتى أبدد سحنة الجهل عن وجهي رحت أضحك ببلاهة على الطرائف التي يلقيها الأصحاب وهم يسردون كيف كانوا يتابعون مجموعة من الصور واحتفالات هذا اليوم. ذلك أيضاً بُعد ما بين الجهل والمعرفة. الهالوين: يحتفل العالم بالهالوين في 16 من تشرين الأول. بعد عام ونصف من وصولي إلى هذه المدينة الساحلية، رنّ جرس البيت، أمام الباب ثلاثة صبية وأمهم بألوان ورسومات وأقنعة وقناديل مضيئة يطرقون بابنا في هذا الشتاء يريدون حلوى احتفالاً بالهالوين!!
عيد القديسين والشهداء والمظلومين، الذي غيّرت طقوسه فيما بعد الثقافة الأمريكية.. فصار عيداً آخر.
البعد الأخر بين ما سمعت وبين ما رأيت.. شتان بين البعدين!
كان من الصعب على الأصدقاء معرفة مكان واسم البلدة التي أسكنها في جنوب دمشق، وكان لزاماً علي أن أربطها بمعلم أكثر شهرة وحضوراً، أقول لهم أسكن بعيدة عن مقام السيدة زينب أقل من كيلو متر واحد.
“ها تسكنين هناك؟”..
“نعم”.
“هل صحيح أن المنطقة تعجّ بالعراقيين؟
“نعم تعجّ الآن بالجميع إلا أهلها”.. بُعد أخر بين ما كان وما صار إليه!
كنت أهزّ رأسي موافقة، ثم أسترسل بثقة العارف، وثرثرة الجائع للخبر، كان لدي خبريّات حول ذلك. ذلك هو البعد- المسافة بين ما أعرف وما يجهلون!
البعد ثانية..
دمشق الجرداء ومدينتي هذه التي تتقيأ الخضرة بملء فمها، ينال مني رذاذها، أخفي وجهي بذراعي.
كنت أسكن في جنوب دمشق. يوم خرجت منها كنت في الثامنة والثلاثين، ولما وصلت جبل الزاوية في إدلب كنت في نهاية التاسعة والثلاثين.. هذا لا يعني بأنني استغرقت سنة في الطريق، لكنه يعني البُعد بين العزم وبين المسير.
يقاس العمر أيضاً بالأبعاد؛ أبعاده فيما أنفقتها، لم يسألني أحد فيمَ أنفقت سنواتي الأربعين حين دخلت الحد الفاصل بين الحدود النمساوية الألمانية.
الحد الذي عبره هتلر حين لم يكتف بكل أبعاد ألمانيا في العام 1938.
الحد الذي عبره مئات الآلاف ممن خرجوا من سوريا، كل من خرج من سوريا عَرَفَ بُعداً ما؟!
لم أعرف الكثير من المطارات في حياتي؛ المطار الأول الذي عرفته كان مطار دمشق ومنه وصولاً إلى مطار القامشلي، وحين كنت بانتظار ولدي ابن الرابعة والنصف وأخطأت برقم البوابة، كان ذلك في مطار هامبورغ. لا عجب أن يسمّوا المطارات بالموانئ. البحر إذا..!
يقول محمود درويش: “كلنا في البحر ماء”.
“كلنا”؟.. من كُلنا؟ هل تحوّل السوريون إلى ماء في بحر إيجه؟
في تقرير عرضته قناة الجزيرة من الشواطئ الليبية عن رجل كانت مهمته الموجعة تنحصر في جمع أحذية الغرقى عن الشاطئ؛ أحذية أولئك الذين عبروا البحر.. بكيت وقتها بشدة.
قال إنه يحفظ هذه المئات بل الألاف من الأحذية ليظلّ هو على الأقل شريكاً بنسبة من الوجع.
لم يكن ما جمعه أزواجاً من الأحذية المتماثلة، فقط فردات منها، بألوان ومقاسات وماركات مختلفة.
تذكرت جيداً حين عبرت جبل الزاوية وفَقَد ولديّ كلّ منهما فردة حذائه، دخلنا تركيا بفردة لكل منهما، دخلنا أول خساراتنا بعرج مع سابق الإصرار.
في كتابها “لماذا لا يتذكر الرجال ويستحيل أن تنسى النساء” تقول الدكتورة ماريان جيه لجاتو: “تستطيع المرأة ببراعة أن تفسّر قدراً هائلاً من تعبيرات الوجه، أكثر مما يستطيع الرجل، مما يعطيها ميزة التعاطف مع مشاعر الأخرين.
وتتمتع المرأة بذاكرة قوية لكل ما تسمعه، ومعنى ذلك أنه يمكنها استرجاع نقاط بعينها دارت في مناقشة نسيها الرجل منذ زمن طويل”.
أتذكر جيداً كيف نبشت المجندة الألمانية ثيابي ونبشت ملابس رضيعتي ابنة السنة والنصف حين دخلنا حدودهم في أواخر سنة 2015.
فعلت ذلك بقلب بارد، لأنها تعرف البعد بين الوطن والشتات!

Exit mobile version