أحمد أبو ارتيمه – غزة
حين تفقد الشعوب الواقعة تحت الاستعمار كلّ عناصر قوتها المادية، فإنه لا يتبقى أمامها إلا سلاح العزيمة لتواجه به محاولات القوة المستعمرة إبادتها، هذا حدث بتكرار في التاريخ، وهو ما يحدث الآن في فلسطين التي يواجه شعبها المشروع الصهيوني الاستعماري.
تنحاز موازين القوى المادية لدولة الاستعمار الصهيوني “إسرائيل” على نحو فادح، إذ تتلقى هذه الدولة دعماً سياسياً وعسكرياً واقتصادياً غير مشروط من المجتمع الدولي الرسمي وعلى رأسه الإدارة الأمريكية، ويمنح التفوق العسكري والأمني والتقني لإسرائيل فرصة التحكم الكامل في الفلسطينيين ما بين البحر والنهر وإحباط أي محاولة منهم للمقاومة.
كذلك تحظى “إسرائيل” ببيئة إقليمية داعمة، تتمثل في الأنظمة العربية غير المنتخبة، والتي ربطت مصيرها بالمحافظة على الاستقرار مع إسرائيل، بسبب اعتقاد تلك الأنظمة أن صحوة شعبية فلسطينية ستلهم الشعوب الخاضعة تحت حكمها أيضا للحركة، وهو ما سيهدد مصالحها، وكذلك بسبب اعتقاد تلك الأنظمة أن إرضاء “إسرائيل” هو مدخل لإرضاء الإدارة الأمريكية، لذلك سارعت تلك الأنظمة إلى التطبيع مع “إسرائيل”.
في المقابل فإن الفلسطينيين يتعرضون لحصار مشدّد من قبل الأنظمة العربية، ويحرمون من الحلفاء الإقليميين الذين من شأنهم أن يوفروا لهم وسائل الدعم والإسناد.
من عناصر قوة “إسرائيل” المادية أيضاً وجود السلطة الفلسطينية التي تمارس التعاون الأمني مع سلطات الاحتلال في الضفة، وتمثل جداراً عازلاً يؤخر اندلاع انتفاضة شعبية شاملة، يواجه فيها الشعب الفلسطيني المحتل مباشرة.
في ظلّ كل عناصر الاختلال هذه التي توفر بيئة مريحة لدولة الاستعمار وتمثل سيفاً مسلطاً على الشعب الفلسطيني صاحب الحق، فماذا تبقى في وسع الفلسطينيين أن يفعلوه؟
لم يبقَ أمام الفلسطيني إلا أحد خيارين، إما التكيف مع الهزيمة وإعلان الخضوع لإرادة المستعمر الصهيوني، وإما أن يقول “لا” ويتحمل ثمن موقفه الرافض دون أن يمتلك أي عامل قوة سوى قوة إيمانه بحقه وقوة عزيمته.
في الأسابيع القليلة الماضية قال الفلسطيني “لا” بصوت عالٍ مرتين في حدثين شديدي الدلالة الرمزية.
الحدث الأول في غزة في 21 آب/ أغسطس الماضي، وهو نجاح شاب فلسطيني في إصابة قناص إسرائيلي متحصن وراء الجدار العازل أثناء تظاهرة نظمها الفلسطينيون، في ذلك اليوم أصيب 41 متظاهراً فلسطينياً برصاص القناصة الإسرائيليين وتوفي اثنان من المصابين الفلسطينيين لاحقاً متأثرين بجراحهما، قبل أن يأتي شاب فلسطيني ويخرج مسدسه ويطلق الرصاص من فوهة صغيرة في الجدار المحصن باتجاه القناص الذي قتل بعد تسعة أيام متأثراً بجروحه.
والحدث الثاني في 6 أيلول/ سبتمبر، وهو اكتشاف نفق بعد تمكن ستة من الأسرى الفلسطينيين المحكومين بالمؤبد في سجن “جلبوع” مشدّد الحراسة شمال فلسطين المحتلة من حفره بسرية كاملة طوال الأشهر الماضية، بالرغم من انعدام الإمكانيات داخل السجن والرقابة الأمنية الإسرائيلية المشددة، وقد بقي الأسرى خارج السجن بضعة أيام قبل تمكن سلطات الاحتلال من إعادة اعتقال أربعة منهم. ولا يزال اثنان منهم مطاردين من جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية حتى لحظة كتابة هذا المقال.
هذان الحدثان لقيا تفاعلاً كبيراً من الجمهور الفلسطيني، وكذلك المناصرون للحقوق الفلسطينية في العالم، وساهما في تأجيج الروح المعنوية الفلسطينية بشكل ملحوظ.
ما المعنى الذي تضمنه هذان الحدثان؟
المعنى الأهم الذي يشير إليه هذان الحادثتان هو قوة العزيمة الفلسطينية، وقدرة الشعب الفلسطيني على استثمار أشد الوسائل بساطة في مقاومة الاحتلال والإعلان عن رفض الاستسلام لمشيئته.
هناك رمزية مكثفة في كلا الحدثين، فالفلسطيني مهما اشتدت حصانة الجدار الذي يحاصره فإنه لا ييأس من محاولة اختراقه، ويكفي ثقب ضئيل في هذا الجدار من أجل أن يرسل الفلسطيني من خلاله صوته أو رصاصته، التي يعلن من خلالها الندية للقوة الاستعمارية المدججة، هذا ما حدث حرفياً في قتل القناص الإسرائيلي على سياج غزة من فوهة صغيرة جداً في الجدار، أبقاها الجيش ليطلق الرصاص من خلالها نحو الفلسطينيين.
نفق الحرية كان أيضاً مشهداً غنياً بالرمزية؛ فالأسرى الفلسطينيون داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي محرومون من أبسط الوسائل العادية التي يستخدمها الناس، وهم مراقبون بدقة من قبل سلطة مصلحة السجون الاسرائيلية، وهناك حملات تفتيش يومية يتعرضون لها، وقبل ذلك فإن بناء السجن محصن بالخرسانة والقضبان الحديدية، كل هذه العوامل لم تقتل إرادة المقاومة في نفوس الأسرى، وولدت العزيمة في عقولهم أفكارًا لنحت الصخر، بالمعنى الحرفي لكلمة نحت الصخر، هم يعلمون أن المهمة صعبة، لكن المحاولة خير من الاستسلام للموت داخل السجون الإسرائيلية.
كان اكتشاف نجاح ستة من الأسرى في حفر نفق من غرفتهم إلى خارج جدران السجن فضيحة مدوية لصورة الهيبة الإسرائيلية.
إسرائيل حريصة على إبقاء صورة التفوق، وأنها دولة لا يمكن هزيمتها في الوعي الفلسطيني والعربي، لأنها تخشى إذا اهتزت هذه الصورة أن يلهم ذلك الشعب الفلسطيني بمقاومتها، لذلك فإن الفضيحة لإسرائيل أكبر من مجرد خروج ستة أسرى من السجن. إن الخسارة الإسرائيلية تتمثل في اهتزاز صورتها الردعية، واكتشاف الناس أن هناك مواطن ضعف يمكن التسلل من خلالها.
في نفق الحرية كانت الدلالة الرمزية حاضرة بقوة أيضًا، أن الفلسطيني قادر على النحت في الصخر من أجل كسر إرادة عدوه، وأن الفلسطيني لا يمشي في النفق وحسب بحثاً عن الضوء في نهايته، بل إنه هو الذي يبادر إلى حفر النفق بأظافره، وهو ممتلئ بالإيمان بأن هناك نوراً في نهاية النفق بعد أن يتم حفره.
عززت حادثة النفق تذكير الفلسطينيين بالذات الوطنية، فقد امتلأ كل بيت فلسطيني بمشاعر الفخر وهو يتابع أخبار نجاح الأسرى في حفر نفق ومعانقة شمس الحرية رغم إرادة السجان، ثم بات كل بيت فلسطيني حزينا بعد بضعة أيام حين تمكن جنود الاحتلال من إعادة اعتقال بعض هؤلاء الأسرى.
تمنى كل فلسطيني لو تفشل “إسرائيل” في الوصول إلى الأسرى، لكنها ليست بطولة كبيرة حققتها “إسرائيل” باعادة اعتقالهم، في ضوء سيطرتها الكاملة أمنياً وتكنولوجياً وعسكرياً، والانتصار الذي انتزعه الأسرى هو انتصار معنوي تمثل في إعلان قوة العزيمة الفلسطينية وإهانة كبرياء “إسرائيل”.
إن الدرس الأهم الذي نتعلمه من أحداث الأشهر الأخيرة في فلسطين هو أن إرادة المقاومة الفلسطينية أقوى من كل السجون والجدران التي يشيدها المستعمر.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج