Site icon مجلة طلعنا عالحرية

الانسحاب الأمريكي يزعزع استقرار المنطقة

غازي دحمان

يزيد انسحاب القوات الأمريكية من سوريا تعقيدات الوضع المعقّد أصلاً؛ وذلك بإخلاله للتوازنات التي تأسست على مدار السنوات الفائتة، ويترك فراغات هائلة لقوى وأطراف ثبت أنها غير قادرة على إخراج البلاد من أزمتها، فضلاً عن امتلاكها لمشاريع جيوسياسية من شأنها التأثير على ما تبقى من استقرار في سوريا.
كانت السنوات السابقة كافية لمعرفة طبيعة المشاريع التي تروم الأطراف الإقليمية وروسيا تنفيذها في سوريا. الجميع وضع أوراقه على الطاولة، والجميع صنعوا سرديات وذرائع تسند مشاريعهم؛ من محاربة الإرهاب إلى الحفاظ على وحدة الأراضي السورية.. أما عيونهم فقد كانت مصوّبة بإتجاه حجم الغنائم الممكن تحقيقها من سوريا المريضة.
التدخل الأمريكي، وإن جاء متاخراً سنوات عن الوعد الذي أطلقه رئيس الإدارة الأمريكية السابق باراك أوباما، من أن بلاده ستتدخل حال استخدم نظام الأسد الأسلحة الكيماوية، رغم ذلك، فإن هذا التدخل الضعيف والمتأخر، فرض سياقاً جديداً للأحداث، وأوجد معادلة أجبرت اللاعبين الآخرين على الحذر من اختراقها أو محاولة المسّ بها.
انبنت المعادلة الأمريكية على ضرورة إيجاد حل للأزمة السورية وفق مقتضيات قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، وخاصة القرار 2254 الذي يطالب بإجراء عملية انتقال سياسي، والتوصل إلى تسوية سياسية دائمة للأزمة، وتشكيل هيئة حكم ذات مصداقية، وتشمل الجميع وغير طائفية، واعتماد مسار صياغة دستور جديد. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قد مرّرت هذه المطالب في بيان فينا، قبل ذلك، وضمنت موافقة أغلبية دولية، من ضمنها روسيا، وهو ما مهد لصدور القرار 2254 دون اعتراض.
وساهم الوجود العسكري الأميركي في شرق سوريا، في تقوية موقف واشنطن السياسي، ودعم أوراقها في مواجهة الأطراف الأخرى المنخرطة في الصراع السوري، إذ أن جميع هذه الأطراف: روسيا وإيران وتركيا، كانت تدرك مدى قدرة أمريكا في التأثير على الوضع النهائي في سوريا، وأنها بمواردها العسكرية والدبلوماسية قادرة على جعل استقرار تلك الأطراف في سوريا أمراً دونه عقبات كثيرة. لذا حاولت هذه الأطراف تجنب الدخول في نزاعات مباشرة معها، كما أنها، وهذا الأهم، اضطرت في بعض الأحيان إلى تخفيض سقف مشاريعها، والمثال على ذلك تأثير الوجود الأمريكي على مشروع طريق إيران البري من العراق إلى لبنان مروراً بسوريا.
يمنح الانسحاب الأميركي اليوم هذه الأطراف، انتصاراً سهلاً، ويعيد الحيوية لمشاريعها في سوريا، كما يعطيها المجال لنقض تعداتها السابقة بخصوص العملية السياسية في سوريا. والمعلوم أن هذه الأطراف تطمح إلى هندسة الحلول في سوريا بما يناسب مصالحها، وقد أسست لهذه الغاية منصّة أستانة في محاولة منها لأخذ الحل السياسي إلى المطارح التي تبتغيها. واليوم بعد الانسحاب الأمريكي لم يعد ثمة عائق يحيلها من تنفيذ رغباتها ومطامحها في سوريا. أما الرهان على تضارب أجنداتها واحتمالات اختلافها، فهو رهان غير صحيح، على اعتبار أن هذه الأطراف قد عملت في السنوات السابقة على تشبيك علاقاتها البينية بدرجة كبيرة، وهي قادرة على استيعاب أي خلاف بينها.
المشكلة في الأمر، أن أمريكا تغادر سوريا على جثة مجتمعات محليّة محطمة، استنزفتها سنوات صراع طويلة، وخسرت نخبة أبنائها في ساحات الصراع. كما لا يوجد سند إقليمي لها. وستجد نفسها مضطرة إلى القبول بتسويات تفرضها سلطة الأمر الواقع: روسيا وحلفاؤها. الأمر الذي من شأنه دفع هذه المجتمعات إلى البحث عن حلول أخرى، قد يكون التطرف أحدها، وعودة الأمور تالياً إلى مربع صراع الأصوليات والديكتاتوريات، وهو الصراع الذي من المفترض أن التطورات تجاوزته لصالح حل سياسي بإشراف دولي، بعد أن دفعت تلك المجتمعات أثماناً مرتفعة للوصول إليه.

لم يعد السؤال مجدياً عن مدى صوابية قرار دونالد ترامب بالانسحاب في هذا التوقيت من سوريا، الأمر حصل وصار هناك واقع جديد، يصعب حتى على أمريكا نفسها تغييره. والأجدى البحث عن مخارج جديدة من هذا المأزق، وإن كانت هذه المخارج تبدو بعيدة جداً، كما لا يمكن التعويل على إمكانية تدخل حلف الناتو لسدّ الفراغ الذي تركته أمريكا، لأن الفكرة جاءت متأخرة جداً.
المنطق يقول إن المخرج الأكثر إمكانية هو اتحاد المتضررين، وهم جميع المكونات السورية، التي انكوت بنيران الديكتاتورية وتدخلات القوى الأجنبية، وإذا كان هذا الأمر ممكناً من الناحية النظرية، إلا أن تطبيقاته على الأرض تبدو صعبة في ظل وجود نخب وقيادات مرتهنة للخارج، على الأقل في الوقت الراهن.

Exit mobile version