بدراسات عديدة فيها من الجهد والضمير ما فيها توصل المفكر الياس مرقص بمشروعه النقدي الكبير لكافة التيارات الفكرية والسياسية وكافة الأحزاب اليسارية واليمينية منذ عصر النهضة العربي حتى نهاية القرن العشرين، توصل إلى أن هذه التيارات والتشكيلات على كل (اختلافاتها) قد نصَّبت لها إماماً، بالرغم من جهل أغلبيتهم به، الا أنه قابع في الذهن والروح، هو الأسقف بركلي الغائب – الحاضر بوعيهم ولا وعيهم، الإمام الأسقف بيركلي أحد أهم رواد المثالية الذاتية صاحب المقولة الأشهر التي تلخص قاعدته المعرفية (المحبرة التي أمامي موجودة لأنني أراها).
وبالرغم من تشدق اليسار ليل نهار بالعلم والمادية وملحقاتهما، وتشدق اليمين بأن العالم حتى بأدق تفاصيله محكوم من الله تعالى (وهذا اعتراف بموضوعية العالم) الا أنهما اليمين واليسار على مستوى الفعل والبرامج السياسية والنظرية، وعلى مستوى خط النظر المعلن منهما والكم الهائل من البيانات، لم يمارسا الا شطحا للذات خارج حدودها وتخفيضا للموضوعية لدرجة الإلغاء، كما هو إمامهم، لنقل بالضبط مركزية الأنا المشغولة بنفسها وطرفية الواقع المحيط بها.
1 – بمقدار ما هو السؤال (كيف نحسِّن العالم) مشروعا وأخلاقيا في العمل العام للبشر، بمقدار ما هو فخ تقع فيه الذات غير القادرة على رؤية موضوعها، ويتفرع على يدها إلى أسئلة أخرى تكشف خط النظر الذي تعيشه (كيف نغير المجتمع، أو كيف نخترق المجتمع أو كيف نؤثر فيه) مستغرقة بهذه التساؤلات وصولا إلى تذويت المجتمع في داخلها، ويتم تحويله من كينونة لها روح وتاريخ الى سذاجة (المجتمع هو مجموع أفراده) حيث يصبح الفعل عندها فعل دعوي (يصلح المجتمع بصلاح أفراده)، محولة الفعل التاريخي العظيم (تحسين العالم) إلى (حصالة تجميع لأفراد يملكون قناعة مشتركة).
2 – إن فعل (تحسين العالم)، شرطه الأول الإقرار ذهنا وروحا ومسلكا بموضوعية العالم. الإقرار بأن له ذاتاً ليست ذاتي ولا ذات كل الأحزاب مجتمعة، وهذا هو الموقف الديمقراطي «الموقف الديمقراطي هو الاعتراف بذات الواقع» كما قال إلياس مرقص، وأن ميول الواقع واتجاهاته ليست بالضرورة متوافقة مع غاياتي ورغباتي، وربما تكون على النقيض منها. وربما يذهب جزء كبير من عملي خدمة لعكس أهدافي –إذا لم أعترف بذات الواقع-، ولنا دليل بتجربة الأحزاب التي رفعت سقف معارضتها بالثمانينات للنظام، مع الإحترام الواجب والشديد لكل التضحيات الجبارة، إلا أنها برفعها هذا السقف قد ساهمت بتقوية النظام، معركة النظام معها رابحة عبر استئصالها وتعزيز الدولة الأمنية، هي لم تعٍ أن خط الواقع وميوله كانت بخط نازل، بدلا من اسقاط النظام أصبحت الدولة الأمنية أكثر نفوذاً.
3 – الثنائية أعلاه (نخب – مجتمع) وترجمتها الفعلية على أرض الواقع لم تكشف إلا عجزا وقصورا وأزمة تعيشها هذه النخب. وأعتقد أن مفتاح خروجها من أزمتها هو وعي جزئيتها وتخلصها النظري من عرَّابها ومثاليته الذاتية وأن تدرك حجمها وتضع لنفسها مهام ضمن اطار الممكن (في تجارب حزبية قديمة كان هناك أحزاب لا يتجاوز عدد أعضائها مقاعد ميكروباص وتضع برنامجاً سياسياً على مستوى الوطن ككل، وتبدأ برنامجها بـ: «نحن نعمل من أجل إقامة الدولة كذا وكذا» أو «نحن نناضل من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية»).
4 – مؤتمر القاهرة لتوحيد رؤية المعارضة السورية من أجل الحل السياسي في سوريا في 8 و 9 حزيران، الملخص الأخير لما جاء فيه «مجلس وطني – مجلس قضاء أعلى – حكومة مرحلة انتقالية – مجلس عسكري انتقالي»، ليس هذا إلا مثالا ساطعا على نكران فاضح للمحبرة، تعبيراً حقيقياً عن أزمة نخب اعتادت تغييب الواقع، المبادرة السابقة قد تصلح بنهاية عام 2011 على افتراض قبول النظام بها، مؤتمر القاهرة لم ير جيش الفتح وجيش الإسلام وجبهة النصرة وداعش والنظام الذي لا يقبل حتى الآن بأي حل سياسي، لم ير ميلشيات طائفية ضخمة تصول وتجول في البلاد، لم ير مجتمعا قد تذرر وتحول إلى عشرات الآلاف من الجزيئات المسلحة، لم ير أن اللغة الوحيدة الآن هي لغة القوة والتغول على الآخر بالسلاح، لم ولم.. خمسون عاما لنظام قهري أمني، وخمسون عاما لفقر معرفي عند النخب. ليست المعرفة قراءة فقط، إنها فعل، فعل باتجاه معرفة الواقع.