مقالات رأي

الاسم المُستعار هُويّةٌ للعبور إلى عالم الكتابة

ياسمين نهار

إنّ التّخفي وراء اسم مُستعار ظاهرة عرفها الأدب منذ القديم؛ حيث يختار الأديب اسماً جديداً يُخفي شخصيّته الحقيقيّة، ويمنحه هوّية جديدة.
وهنا يحقّ لنا أن نتساءل: لماذا يتّخذ الأديب أو المفكّر اسماً مُستعاراً؟
منذ القِدم.. منذ قتل سقراط؛ لأنّه طالب باستقلال الفِكر حاربت السُّلطة الكتّاب الخارجين عمّا ألفه النّاس، واعتادوا عليه.
ولأننا نعيش في مجتمع تطغى عليه نزعة التّقليد، وتُكبَت فيه الحريّات اتّخذ بعض الأدباء والمفكّرين اسماً مُستعاراً، هو بمثابة قناع؛ يمنحهم حريّة التّعبير عن أنفسهم، أو ربّما يكون وسيلة لتقمّص شخصيّة جديدة تعبّر عن المحظور من الآراء والأفكار بعيداً عن أعين الرّقابة.
ذلك أنّ السُّلطة على اختلاف أشكالها تحارب الكتابة الإبداعيّة؛ لأنّ الكتابة تهدف إلى بناء الإنسان الحضاريّ الحرّ، بينما السُّلطة تهدف إلى قهر الإنسان وصهره في بوتقة الجماعة الخانعة.
لذا كان هاجس الأدباء والمفكّرين البحث عن فضاء يتنفّسون فيه بحريّة، ويعبّرون من خلاله عن آرائهم بعيداً عن القمع والّرقابة.
وتجدر الإشارة هنا إلى تاريخنا الحافل بأسماء سلاطين سجنوا الأدباء والمفكّرين، وأذاقوهم مرارة السّياط.
وقد قُتل الكثيرون ظلماً وعدواناً بإيعاز من سلطان تولّى مهمّة محاسبة العباد على الأرض، وقَمْع الأقلام الحرّة ليلتحق أصحابها بقائمة من شهداء الكلمة، قائمةٍ طويلةٍ يُعدُّ سقراط الرّمز الاوّل لحريّة الفكر فيها.
وقد يكون من الدّال بحقّ على ظلم وجور الحكّام حادثة قتل علم من أعلام الفكر والأدب والتّرجمة في أدبنا وهو عبد الله بن المقفّع، إذ عُوقب بتقطيع جسده قطعةً قطعةً وأُلقي به في النّار لأنّه أرسل كتابه “رسالة الصّحابة “ إلى الخليفة المنصور نصحه فيه بحُسن اختيار معاونيه وحُسن سياسة الرّعيّة.
ويمكننا أن نتوقّف أيضاً عند تجربة شاعر يعدّ من أبرز شعراء قصيدة النّثر، أعلن تمرّده على الواقع من خلال قصائد خرجت على التّقليد الشّعريّ السّائد هو الشّاعر “محمّد الماغوط”،
وشاعرنا خبر الفقر وتجربة السّجن في عمر مبكر، لأنّه عاش في وطن يجلد المبدعين بسياطه وقسوة العيش فيه.
كلّ هذا دفعه إلى استبطان أعماقه، والاعتصام بمخيّلته التي تدفّقت صوراً جديدةً غريبةً استطاعت أن تترجم معاناته ومعاناة من حوله بنبرة لا تخلو من السّخرية وبلغة تستحضر اليوميّ وتشحنه بطاقات شعريّة عالية.
من يدرس حياة الماغوط يرَ أنّه من الذين سبحوا ضدّ التّيار في الكتابة وفي الحياة، وقد وقّع بعض الكتابات في بداياته باسم “سومر” خوفاً من السّجن “فبقدر ما تكون الكلمة في الحلم طريقاً إلى الحريّة، نجدها في الواقع طريقاً إلى السّجن” هذا ما قالته زوجته الشّاعرة سنيّة صالح عن شاعر رأى الشّعر أداةً من أدوات التّغيير.
ولا يلبث القارئ طويلاً حتّى يكتشف أنّ الحريّة هي هاجس الماغوط الأسمى في بلاد لم يلقَ فيها إلا الألم والغدر فيقول:
“لكنّني لا أستطيع أن أتنهّد بحريّة
أن أُرفرف بك فوق الظّلام والحرير
إنّهم يكرهونني يا حبيبة
ويتسرّبون إلى قلبي كالأظافر”
والحقيقة أنّ أشكال القمع السّابقة، تُورث بيئة اجتماعيّة متخلّفة؛ ترفض تعليم المرأة وخروجها من المنزل إلّا أنّ إرادة التّحدي لدى بعض السّيّدات دفعتهن إلى مواجهة هذا القمع الاجتماعيّ الذي يحرم المرأة من أبسط حقوقها وهو حقّ التّعليم وخير دليل على ذلك الدّكتورة عائشة عبد الرّحمن التي اتّخذت لنفسها لقب “بنت الشّاطئ” وبنت الشّاطئ لم تستطع الكتابة أو النّشر باسمها الصّريح؛ لأنّها ولدت في بيئة تحرم الفتاة أن تتعلّم وتمنعها من الخروج من المنزل.
أخذت الدّكتورة بنت الشّاطئ تنشر مؤلّفاتها بهذا الاسم حتّى صار هذا الاسم/ا لقناع يدلّ على سيّدة من سيّدات النّهضة العلميّة والفكريّة والأدبيّة في عالمنا العربيّ والإسلاميّ.
ولا بدّ من أن أذكر هنا تجربة شاعرة سعودية لم تتجرّأ على الجهر باسمها الصّريح، رمزت لنفسها بـ”غجريّة الرّيف” أو “غيداء المنفى” ليخفي هذا الاسم/ القناع شاعرة جميلة نشرت قصائدها على مدار عامين في جريدة الجزيرة السعوديّة، ثمّ توقّفت عن النّشر. وقد تحدّث عنها النّاقد عبد الله الغذّامي في كتابه “تشريح النّصّ” تقول في قصيدة عنوانها: “تداعيات عطشى إلى عنوان ما”: “في دمي
امرأة خائفة
ترتعد كاللقيطة في مدن الأولياء
وجهها يحمل الغيم..
وجهي براري ظمأ
نخلتان على صدرها.. والعيون مطر
أربط الأمتعة
فأين الموانئ
أين المحطّات؟
والطّرق.. الآن ضائعة.
والمدينة.. قديسة تنتحر.
كلّ أغنية عذّبتني وعذّبتها
خلعت فصولي عليها.. ومارست.
فيها العقوق الأثيم.
أضاءت عناقيدها لحظة.. ورمتني
أنا امرأة عشقها عاشرته العصافير
.. واجتاحه السّيل.
.. نازلته سيوف القبائل!!
قالت لها الشّمس.. يوماً.
استمطرت مدن الثأر
ولتبحثي عن عيون رحيمة”
تعبّر الشّاعرة في هذه القصيدة عن خوفها وما تعانيه من حزن وضياع “في مدن الأولياء”، وحين تبحث عن ملجأ آخر وهو الشّعر يُبعَث النّور فيه لحظةً ثمّ ما يلبث أن يرميها لأنّها خرجت عمّا تعارف عليه الآخرون، و”سيوف القبائل” تحارب عشقها لأنّها أرادته أن يحلّق دون قيود ويكون رفيقاً للطير.
إنّ هذا النّصّ وأمثاله يعلّل احتجاب المبدعات وراء اسم مُستعار، يستعنَّ به للكشف عن الواقع المقموع المكبوت الذي يعشنَ فيه.
وفي الختام أقول: توقفت في هذا المقال عند أهمّ سببين يمكن أن يمنعا الأدباء والمفكّرين من الكتابة بأسمائهم الصّريحة في بلادنا العربيّة وهما: الاستبداد السّياسيّ والاضطهاد الاجتماعيّ، ومع ذلك يبقى الحلم مستمرّاً بأوطان تحمي مبدعيها وتكفل لهم حرّية التّعبير والعيش الكريم.

Click to comment

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

To Top