Site icon مجلة طلعنا عالحرية

الاستثمار في جروح البشر

بشرى البشوات

“مقاهٍ صينية “على الطراز السوري” تحقق شعبية في الصين”؛ ويقصد بالطراز السوري البيوت المدمرة، الخرسانات والأسمنت، وظهور واضح وصارخ للون الرمادي؛ الذي يعني بأن ثمة قصف مرّ من هنا.
لا يبدو مستغرباً، وإن كان مؤلماً، أن تجد من البشر من انقاد بشهوة الربح إلى أن يستثمر، ليس فقط في الحطام السوري المتعلق بما حلّ بالبنية التحتية والسكنية، لا بل البشري جملة وتفصيلاً في مستوى ما يتصل حتى بأعز مواطن الروح والوجدان.
ليس القصد هنا حمية وطنية فقط تريد أن تتفجع على ما حلّ بالوطن السوري، بل هي حمية إنسانية تريد أن تتساءل عن المصير الأخلاقي والإنساني والقيّمي للبشرية على هذا الكوكب، تريد أن تشاغب، بل وتتمرد على هذه البشرية التي لم تعد تخجل من عبوديتها. حضارتها الكئيبة التي لم تعد تنتج سوى التشويق والإثارة واللذة، بوصف أن هذه جميعاً ما سوى وجوه أخرى للألم والسأم والرتابة؛ فليس ثمة لذة دون أن يقابلها ألم، وليس ثمة إثارة بلا سأم، كما لا تشويق بلا ملل.
وما كل ذلك في المآل سوى وجوه لهذا العقل الحزين والأناة الشقية، بوصف أن هذين الأخيرين أكبر ثقبين في الكون الإنساني، حين لفظنا كئيبين ومشوهين وحزينين، بل متوحشين ومجرمين، سفاحين وتجار حروب، لنا من إرادة الهيمنة ما يكفي لدمار العالم، وقد فعلنا ذلك حقاً بنسبة كبيرة، ومازال في جعبتنا ما يكفي لسحقه نهائياً ولعدة مرات، كل هذا ولم تخجل البشرية مما هي عليه، فهل سيخجل بعض المستثمرين في الصين أن يستثمروا في “نمط الحطام السوري”!

انتقاء مجحف
نسأل الصحفية السورية خلود حدق عن هذا الخبر، وتجيب: “تفاعلت مع الخبر بسخرية، فهو المضحك المبكي أن يصبح الدمار طرازاً سورياً بعدما اشتهرت سوريا بالطراز المعماري الفريد على مدى التاريخ، وتميزت بأنواع عديدة من الديكور، وأهمها الدمشقي بكل تفاصيله من ديكور وأثاث..
أمّا أن العالم لم يعد يرى من سوريا سوى الدمار ليتخذه طرازاً، فهذا مجحف كثيراً في حق سوريا وسخرية من مأساتها”.
الرائع!
بالطبع ليس كل الصينيين يرون في الحطام السوري ديكوراً للزينة، ومنهم الكثيرين الذين يخجلون من ذلك، ويذكرون بالحطام الزلزالي (ستشوان) الصينية، وأسلوب تشنغتشو لحطام الفيضانات، وربما يوجد في العالم الكثيرون ممن قد يرغبون بمقاربة الحطام السوري على أنه ديكور للزينة، بالمناسبة ثمة في ميدان الجماليات مايعرف بمفهوم “الرائع” لا بمعنى الجميل والحسن والمدهش، بل بمعنى المفزع والمروع والمريع، ربما أسلوب الحطام يحيل بصورة مباشرة إلى مفهوم الرائع بالمعنى الذي سبق ذكره، ولكن ليس حين يرتبط هذا المريع الجمالي بجرح شعب.
تكريس البشاعة
ولدى سؤالنا الشاعرة والمترجمة نور نصرة، علّقت: “من المؤكد أن رواج فكرة المقاهي التي تجسد واقع الحرب السورية في الصين أمر جارح بالنسبة لنا كسوريين؛ أولاً كوننا تألمنا وتأذينا من هذه الحرب من جهة، وكوننا اعتدنا أن تكون سوريا حاضرة كما كانت على مر التاريخ بكامل أناقتها الحضارية والتاريخية، لهذا فإن هذه المقاهي أشبه بتكريس بشاعة وقباحة وجه الحرب الذي نعمل على مسحه أو ترميمه قدر الإمكان، على الأقل على الصعيد الثقافي والبصري. من جانب آخر، إذا ما أردنا أن ننظر إلى هذه الظاهرة من نطاق أوسع ونحاول أن نحلل سبب نجاحها في المجتمع الصيني، سنجد أن السبب ليس في غرابة الفكرة، بل في تراجع القيم الإنسانية عموماً وتعامل الفرد بطريقة افتراضية لكل ما يدور حوله، بل وابتعاده عن القيام بدور إيجابي حتى من الناحية الفكرية والأخلاقية فيما يخص قضايا الحروب”.
الجمال والابتكار في عصر الاتصالات
“الجمال نوع من أنواع العبقرية، بل هو أرقى من العبقريّة، إنه لا يحتاج إلى تفسير، فهو من بين الحقائق العظيمة في هذا العالم، إنه مثل شروق الشمس، أو انعكاس صَدفة فضيّة نسيها القمر على صفحة المياه المظلمة” (أوسكار وايلد في روايته “صورة دوريان جراي“).
يأتي الجمال بشقيّه الطبيعي والمعاد تصنيعه.
التدخّل البشري في ابتكار أصناف وتصميمات، لم يكن البشري يتخيّل بأنها ستكون عامل جذب في يوم ما، وتتصدر في عصر الاتصالات محركات البحث، للتأكد بأن ما كان حطاماً يوماً ما، تحوّل في مكان ما في أقصى الكرة الأرضيّة إلى حالة فنية مبتكرة وغريبة، تحقق شعبيّة متزايدة وتخبرنا بأن الخيال الحر وحده، قادر على خلق أعمال إبداعية جديدة، بعيداً عن التقليد الذي يعتمد على محاكاة الأشياء القديمة والمعروفة.
الخيال الحر يصنع إبداعًا حسب الفيلسوف “كانط”.
الابتكار ولكن ضمن قواعد الفن والجمال.
الاستثمار في جروح البشر
هذا ما يقذف بنا إلى قلب السؤال عن النهاية، كيف نزلت البشرية إلى هذا الدرك، وكيف يتحول الجرح البشري مادة دعائية في الفضاء السيبراني.
يجب تجذير الإشكالية وتصعيد السؤال؛ فالموضوع وإن اتصل بالسوريين، لكنه بنكهة الفضيحة البشرية في مستويات جمالية وأخلاقية وقيمية وإنسانية، تحول الهامش التراجيدي السوري إلى متن كوني بأبعاد تراجيدية.
ترتفع أصوات كثيرة في الجانب الآخر تقول بأن السوريين أنفسهم أكثر من استثمر واستفاد من مآلات الوضع السوري، وبأن السوريين أنفسهم تكسبوا من ذلك، وابتعدت قضيتهم كثيراً عن منحاها الإنساني وأخذت بعداً آخر، تمثّل بالتربح والتكسب من جراء ما حلّ ببلادهم (كتّاب، مخرجون ، صحفيون، شعراء، تجار..).
الكل حاول أن يمد يده حتى ببركة الدم واقتطع لنفسه قطعة!
تضيف خلود حدق: “لا يحق لأحد أن يتخذ المأساة السورية أداة للتسويق لفنه، سواء كان سورياً أم غير سوري، لأن الفنان الحقيقي هو من يحمل رسالة فنية مقدسة، ويحاول لفت النظر ﻷي حالة و/ أو مأساة وتصويرها بأسلوبه، ولفت نظر العالم إليها من خلال فنه، والأهم هو تأريخها، لأن الفن هو عنصر أساسي في تأريخ الحقب الزمنية، بدليل أننا عرفنا الكثير عن حضارات كثيرة اندثرت عن طريق ما خلفته تلك الحضارات من رسومات ومنحوتات وعمارة”.
هذه المقاربة لا تتفجع على الحطام السوري، بل تريد الإشارة إلى المنحنى التصاعدي للحطام الإنساني، ولم تفقد الأمل بالبشرية التي عليها أن تشكر الهاوية الفسيحة التي مازلنا نواصل السقوط فيها، لنؤمن في آخر المطاف بضرورة التحرير، تحرير البشرية من نفسها.

Exit mobile version